كنوزنا - ياسين بن سعد
ينسب جامع القصر إلى فترة حكم بني خساران وتحديدا إلى القرن الثاني عشر لكن هذا المعلم أقدم بكثير فهو موضع كنيسة تعود إلى الفترة البيزنطية ما يجعله من أبرز معالم مدينة تونس التاريخية.
يخبرنا المؤرخون أن بني خراسان حكموا تونس بعد خروج المعزّ ابن باديس الصنهاجي على الخلافة الفاطمية وقد أوضح ابن عذارى القصة فقال " ّلمّا رحل بنو عبيد (الفاطميّون) إلى مصر لم يزل ملوك صنهاجة يخطبون لهم بافريقية ويذكرون أسماءهم على المنابر وتمادى الأمر على ذلك حتى قطع أهل القيروان صلاة الجمعة فرارا من دعوتهم (التشيّع) ...فكان بعضهم إذا بلغ إلى المسجد قال سرّا : اللهم اشهد ، اللهم اشهد ثم ينصرف فيصلّي ظهرا أربعا إلى أن تناهى الحال حتى لم يحضر الجمعة من أهل القيروان أحد فتعطلت الجمعة دهرا ...إلى أن رأى المعز ابن باديس قطع دعوتهم فكان بالقيروان لذلك سرور عظيم ثم إن الأمر لم يتوقف على الجمعة حيث يذكر ابن عذارى نقلا عن ابن شرف القيرواني أن المعز أمر بلعنهم في الخطب وخلعهم ولما كان عيد الأضحى أمر الخطيب أن يسبّ بني عبيد.
كان من نتيجة هذا التمرد أن أرسل الخليفة المستنصر الى ابن باديس رسالته الشهيرة وفيها :" أمّا بعد فقد أنفذنا إليكم خيولا فحولا وأرسلنا عليها رجالا كهولا ليقضى الله أمرا كان مفعولا" وكانت تلك خيول بني هلال الذين أطلق الفاطميّون أيديهم في افريقية فعاثوا في البلاد فسادا وشتّتوا ملك ابن باديس حتى لم يبق له شيء تقريبا.
يذكر ابن خلدون كيف خرجت مدن سوسة وصفاقس وقابس عن حكم الصنهاجيين وكيف اقتسمت القبائل البدوية البلد قائلا "وانقطعت تونس (العاصمة) عن ملك المعز ووفد مشيختها على الناصر ابن علناس (الحمادي) فولّى عليهم عبد الحق ابن عبد العزيز ابن خراسان يقال أنه من أهل تونس والأظهر أنه من قبائل صنهاجة فقام بأمرهم وشاركهم في أمره وتودّد إليهم وأحسن السيرة فيهم ". كانت هذه الظرفيّة التاريخية منطلق ولاية الخراسانيين على مدينة تونس (1058 الى 1159 م.
سوف يكون ثالث الأمراء أحمد ابن عبد العزيز باني كامل الحيّ الخرساني الذي داخل باب منارة وكان به قصر الامارة الذي ستبنى عليه في القرون الموالية لحكم الخراسانيين الدار المعروفة اليوم بدار حسين وأحمد هذا هو من بنى تربة بني خرسان الموجودة إلى اليوم في نهج بن محمود والتي يعتقد الكثيرون خطأ أنها زاوية لوليّ اسمه سيدي بوخريصان وهو أيضا من أمر بتشييد جامع القصر.
مازال الجامع واقفا بشموخ ، مشرفا على باب المنارة وعلى بطحاء الجنرال وكامل الحيّ الخراسانيّ ، ومازالت هندسته الفريدة مصدر دهشة وإعجاب لدى العارفين بتفاصيل المعالم التاريخية .
يؤكد ابن الخوجة أن بناء جامع القصر هو من دون شك سابق للفتح الإسلامي إستنادا إلى جملة من الأدلة والشواهد ومنها أن محرابه مخالف في الشكل لجميع المحاريب إذ هو أقل مسافة فيما بين الواقف بطرفه وبين القبلة فدل ذلك أنه ليس من الرسم الأصلي بل هو منحوت من عرض الحائط ومنها إحكام بنائه إحكاما زائدا بحيث يشاكل ما هو مقطوع بأنه من بناءات الجاهلية ولقد شوهد أثر هذا الإتقان لما تعلق الغرض بفتح منافذ في بعض حيطانه للضوء وغيره فلم يتيسر الوصول إلى المراد منها إلا بعد جهد جهيد.
الثابت إذن أن الجامع قد بني على أنقاض كنيسة رومية مسيحية دلت على ذلك أيضا نقيشة باللاتينية في احد الجدران اندرست بمرور الزمن وهو في الأصل جزء من الحي الخراساني الذي تشكل حول قصر الحكم الذي كان يسمى القصر الأعلى وأما المباني المحاذية للجامع فجلها من ملحقات القصر.
كان استقرار العثمانيين بتونس بعد طرد الإسبان يتطلب جامعا للخطبة الحنفية على مذهب الخلافة العثمانية ولما كان جامع الزيتونة هو الجامع الأعظم فقد سعى الأتراك إلى أن تكون خطبة الجمعة الحنفية فيه وهو ما لم يتسن لهم بعد اعتراض إمام الجامع الشيخ محمد البكري إمام المذهب المالكي الغالب في بر تونس فتقرر تحويل جامع القصر إلى جامع للخطبة الحنفية في 1598 م بعد إصلاحه وترميمه فهو قد كان في ذلك الزمان خربا.
أما منارة الجامع فقد أنشات بأمر من الداي محمد لاز في 1647 م واكتملت خلال السنة الموالية وجاء بناؤها كما يقول بن الخوجة "بطريقة شاذة لا قاعدة لها في فن هندسة البناء لأنهم بنوها فوق سطح بيت الصلاة لا أساس لها وإنما هي قائمة على جدار البيت الذي يبلغ سمكه لنحو خمسة أذرع وعبارة التاريخ المنقوشة على واجهتها هي هذه : "بسم الله الرحمان الرّحيم إنّما يُعمّر مَسَاجدَ اللّه منْ آمَنَ باللّه وَاليَوْم الآخر وَأقَامَ الصّلاَةَ وآتَى الزّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إلاّ اللّهَ فعسى أوْلَئكَ أنْ يَكُونُوا منَ المُهْتَدينَ" وبعد، فقد جرى بناء هذه الصومعة على يد الحاج الناسك المقدس محمّد داي حفظه اللّه تعالى سنة سبع وخمسين بعد الألف.
شهد جامع القصر حضور كوكبة لامعة من الأيمة والخطباء ورجال العلم منهم الشيخ العالم عبد العزيز بن معطي والشيخ محمد البشير الزواوي والشيخ محمد بن ملوكة أما أول إمام فهو الشيخ محمد بن أحمد فندي الشهير بالقصري .
الأسرة البيرمية وهي أشهر الأسر الحنفية في مدينة تونس تولى منها إمامة جامع القصر الشيخ محمد بيرم الرابع ثم انتقلت إمامة الجامع وخطابته إلى أسر حنفية أخرى هم آل برناز وبرتقيز والستاري والأبي والخوجة.