كنوزنا ياسين بن سعد
عطر الأندلس الضائعة هو ماء الزهر ...عطر بلون التغريبة التي قادت 80 ألف موريسكي من موطنهم إلى مدن وقرى تونس بعضهم لا يحمل معه إلا ما تحفظ يداه من صناعة أو ما استنبطه عقله من مهارات.
وإذا كان الأندلسيون الأوائل الذين قدموا إلى تونس في عهد أبي زكريا محظوظين جدا إذ عمل كثير منهم في البلاط أو شغلوا مهام مرموقة فإن الأندلسيين الآخرين الذين أطردوا من أرضهم واستقبلتهم تونس في عهد عثمان داي لم يكونوا في أغلبهم سوى مسلمين بسطاء أقطعهم العثمانيون أراض فلاحية شاسعة ليزرعوها وينشئوا قراهم وأحياءهم التي نعرفها وليدخلوا في أعمالهم كل المهارات والخبرات التي أتقنوها في الفلاحة والصناعة والعمارة والمأكل والملبس وغيرها ولا شك أنهم قد جلبوا معهم شجرة النارنج كما تسمى عندنا والتي ستصبح مصدر ماء الزهر الذي تحرص العائلات التونسية على إحكام تقطيره جيلا بعد جيل.
سوف تصبح العطور جزءا أساسيا من هوية تونس العربية الإسلامية وليس صدفة أن سوق العطارين هو أجمل أسواقنا القديمة وأعرقها إذ هو يعود إلى القرن الثالث عشر زمن أبي زكريا الحفصي وغير بعيد عنه كان ثمة سوق كامل لبيع الأزهار يسمى سوق الطيبين قبل أن يصبح سوقا للكتب ويعرف بسوق الكتبية.
لشجرة النارنج المعروفة باسم Cirtus Aurantium قصة طويلة فهي قد جلبت من الصين إلى دمشق ثم زرعت منها مساحات كبيرة في العراق وحملها العرب إلى اسبانيا ومنها إنتقلت إلى دول أخرى بينها أقطار المغرب العربي وفرنسا واليونان وقد توارث الأندلسيون الذين تعرّبوا وجيرانهم العرب تقطير الزهر من النارنج ولاحقا دخل ماء الورد مع النسري ونباتات عطرية أخرى في تقاليد البيوت التونسية لكن التونسيين لا يختصون وحدهم بهذا الأمر فمدن مغربية عدة حفظت هذه التقنية عن الأندلسيين وهي الرباط وسلا ومكناس وفاس وتطوان ومراكش وغيرها ومدن جزائرية كثيرة تحذق عائلاتها هذا التقليد الأصيل.
خلال المرحلة التي تلت الحكم الحفصي وتحديدا خلال الفترة العثمانية سوف تصبح الروائح العطرية التونسية بضاعة رائجة في حوض المتوسط وها هو رشاد الإمام في أطروحته حول حمودة باشا الحسيني ينقل لنا انطباعات الرحالة الأوروبيين عن العطور التونسية فيقول "كانت الأشجار المزهرة في البلاد التونسية كثيرة وممتازة الأنواع إلى حد جعل الأب رينال يرشح معظمها بكونها أفضل ما يوجد في العالم واختص بالذكر منها شجرة البرتقال أو النارنج والورد. وكان التونسيون قد استطاعوا الحصول على زهرة برتقال قوة أريجها يفوق زهور مالطة الشهيرة وأما الورود التونسية فقد أعطت ماء ورد وعطرا لا يقلان جودة إلا بمقدار يسير عن تلك التي توجد في الهند الغالية الثمن وقد حول التونسيون تلك المتع العطرية إلى إمكانيات تجارية ومصالح إقتصادية .
..ويؤكد الأب رينال أن عطور الورد كانت أهم أنواع العطور التونسية المصدرة إلى الخارج بكميات كبيرة.
ولجودة تلك العطور وقيمتها التجارية في الخارج خصص لها الطبيب فرانك في كتابه صفحتين لوصفها والتعريف بصناعتها وتعداد أسواقها الأجنبية وذكر أسعارها المربحة".
لكن ما قصة الوطن القبلي مع أشجار النارنج وماء الزهر؟ والجواب أنها قصة كل الموريسكيين الذين استقروا بتونس بتوجيهات من السلطة العثمانية الحاكمة فبعضهم استوطن مناطق الشمال من باجة إلى تخوم الحاضرة وأرباضها فيما وجه قسم كبير منهم إلى الوطن القبلي وقد ذكر ابن أبي دينار في المؤنس كل القرى والمدن التي بنوها أما حسام الدين شاشية فيذكر في دراسته المطولة عنهم بعض سمات الأنشطة الإقتصادية والإجتماعية المرتبطة بهم فيقول " يخبرنا خيميناث عند زيارته لمدينة قرمبالية أن مصطفى دي كارديناس شيخ الأندلس أمر في بداية القرن السابع عشر بزراعة 18 ألف شجرة زيتون و12 ألف شجرة لوز وعنب وأشجار مثمرة أخرى ويذكر السراج في نفس المعنى ...وأحدثوا بها جنات من أعناب وزيتون وغريب الفواكه والثمار...بالإضافة إلى النشاط الفلاحي كان الموريسكيون في الوطن القبلي يمارسون أنشطة تحويلية في علاقة بهذا النشاط فخيميناث يذكر أن مصطفى دي كارديناس كان يملك معصرة زيتون أما بيسونال فيخبرنا أن موريسكيي سليمان كانوا يصنعون الجبن والزبدة كما تخبرنا بقايا طاحونة الريح التي مازالت موجودة في مدينة سليمان عن استعمال الموريسكيين لهذه التقنية المستوردة من اسبانيا في طحن الحبوب وغيرها".
هكذا نفهم إذن أن تقطير الزهر والورد هو عادة قديمة قدم مدن الوطن القبلي ومكون أساسي في الموروث الحرفي المحلي فالعائلات تقوم كل سنة باستخراج ماء النارنج والعطرشية والورد وهذه العادة منتشرة أيضا وبكثرة في ولايات الشمال والساحل وصفاقس والقيروان خصوصا حيث يوجد اهتمام كبير بزراعة أشجار البرتقال مع الورد والعطرشية في البساتين.
في الوقت الحالي يوجد بولاية نابل نحو 150 ألف شجرة نارنج موزعة على 450 هكتارا ويخبرنا موقع الولاية أن ماء الزّهر يلقب بالذّهب الشفاف الأبيض والحقيقة أن روح الزهر وهو تلك القطرات البنية التي تتشكل في أعلى القوارير عند القيام بالتقطير هي بالفعل أثمن من الذهب إذ تتخاطفها أبرز بيوت العطور العالمية بأسعار باهضة.
يضيف المقال "تسمّى زهرة البرتقال “زْهرْ” أي نفس الكلمة التي تدلّ بالعاميّة على “الحظّ”.إنها فعلا حظّ حقيقي وثروة، فهذا السائل يشكل نشاطا اقتصاديّا وتكملة للمطبخ وأحد مكوّنات بعض المواد الصّيدلية، وله لدى النساء حظوة خاصة، إذ يقبلن عليه بشغف كبير وخاصة في فصل الربيع كنشاط متميز ومخصوص.
وتحتفظ كل أسرة بأواني التقطير وهي الأنبيق الذي انسحب اسمه العربي على كلّ آلات التقطير في اللغات الأوروبية.
يعاد تركيب تلك الآلات وغسلها وتلميعها في بداية شهر مارس من كلّ سنة، ويختلف إنبيق الوطن القبلي عن بقية المناطق الأخرى فهو مكوّن من قدر كبير يسمّى” قازان” من النحاس بالنسبة للأسر الميسورة وطيني لباقي العائلات، وقد يستعمل البعض أنصاف البراميل، أمّا الغطاء وهو “المكبّ” فمصنوع من الفخار البسيط وينطلق منه خرطوم طويل ينتهي بأنبوب ضيّق في حجم عنق الزّجاجة يخترق قدرا يسمّى “المحبس” يملأ بالماء البارد ويعاد ملؤه كلّما ارتفعت حرارة الماء .
الوحدة الأساسية هي “الوزنة” التي تعادل أربع كيلوغرامات، ويستخرج منها بعد التقطير مقدار زجاجتين أوّليتين من ماء الزّهر العالي والمركز وزجاجتين من السّائل العادي.
ومنافع ماء الزّهر عديدة ومتنوعة كدواء للحمّى والسعال وضربة الشـّمس ويدخل في تركيبة عدّة أدوية محلية أوفي الصناعات الكيميائيّة ".
أصبح تقطير الزهر خلال الأعوام الأخيرة صناعة قائمة بذاتها فحوالي 3000 أسرة تعيش من هذه النبتة الثمينة ومائها ومن زيت النيرولي فيما إستأثرت مدينة بوعرقوب بنصيب الأسد من عملية التحويل الصناعي لزهر النارنج والذي تقوم به 8 وحدات صناعية.
أليس الزهر فعلا كنزا ثمينا من كنوزا تونس...أو...أليس هو فاصلة بديعة في تراثنا العميق وهل يطيب تناول القهوة العربية في غياب الزهر وتستطاب الحلويات التونسية إن لم تكن بماء الزهر والورد؟