
تعرضنا في مقالنا السابق حول باب البحر إلى السور الأول الذي بني حول مدينة تونس والمعروف بالسور الداخلي/ الدخلاني وأما السور الثاني فقد بني في العهد الحفصي وكان في هذين السورين أكثر من عشرين بابا.
أفاض الرحالة والمؤرخون في وصف مدينة تونس كل بما رآه أو وصل إليه من معلومات وقد قدم لنا عبد العزيز الدولاتلي في بحثه التاريخي المتعلق بباب أرطه استنادا إلى ما ذكره البكري في المسالك والممالك وصفا دقيقا لمدينة تونس في بداية تشكلها حيث يقول" تبدو مدينة تونس في أواسط القرن الخامس/الحادي عشر محاطة بخندق خارجي فسيح الأرجاء يحتضن الأسوار عن بعد من مسافات تختلف حسب الاتجاه : شاسعة من جهتي الشمال والشمال الشرقي بما يفسح المجال لبساتين مجهزة بالنواعير (سواني المرج أمام باب قرطاجنة) وأخرى تخترقها السواقي جنبا لجنب مع قصور بني الأغلب (أمام باب السقائين) ، وأقل اتساعا نسبيا من الجهة الغربية أين يوجد غدير كبير. ولا نعلم هل يستمر الخندق أم لا من جهتي الجنوب أين يفتح باب الجزيرة ومن جهة الشرق أين باب البحر.أمّا الأسوار فقد كانت تفتح على الخارج ... بفضل أبواب خمسة، واحد منها فقط وهو باب البحر لا يزال قائما إلى يومنا هذا بالقرب من مكانه الأصلي بعد إعادة بنائه في سنة (1878) وثلاثة وهي باب الجزيرة وباب قرطاجنة وباب سويقة، فقد تمت إزالتها مع أسوارها بداية من سنة 1830 ومع ذلك فإن مواقعها بقيت معروفة. يبقى الباب الخامس وهو باب أرطه الغربي، فعلى الرغم من المعلومات التي أتى بها النص من أجل ضبط موقعه، فإن تساؤلات عديدة بقيت عالقة بذهننا ".
توسعت المدينة كثيرا وتزايد عدد أبوابها خلال المراحل التاريخية المختلفة أي من القرن الثالث وحتى قدوم بني حفص واستقلالهم بحكم تونس ، حتى فاق العدد العشرين بابا ونذكر منها باب البحر وباب قرطاجنة وباب السويقة وباب الفلاق وباب السقايين وباب البنات وباب المنارة وباب الجديد وباب الجزيرة وباب علاوة وباب ينتجمي وباب غدر وباب الفلة وباب القرجاني وباب سيدي قاسم وباب سيدي عبد الله الشريف وباب العلوج وباب سعدون وباب الأقواس وباب سيدي عبد السلام وباب العسل وباب الخضراء وباب الفلة ولكل من هذه الأبواب معنى أوغاية لسنا بصدد تفصيلها الآن وإنما سنفعل ذلك في مقال لاحق مع الاشارة إلى كون بعض الأبواب كما يرى روبار برنشفيك إنما عرفت بأسماء أخرى في فترات سابقة كباب السقائين الذي صار باب السويقة نسبة إلى السوق الصغير للشيخ محرز بن خلف مضيفا "أما سورالربض الجنوبي فكان يشتمل على أربعة أبواب مازالت قائمة الذات إلى اليوم وهي باب علاوة وباب الفلاق الذي أصبح باب الفلة في القرن السادس عشر وباب القرجاني وباب خالد المعروف المعروف في بداية العهد الحفصي باسم باب المنصور وفي العصر الحديث باسم باب سيدي قاسم لقربه من ضريح ذلك الولي سيدي قاسم الجليزي".
يؤكد ابن الخوجة أن "جميع أبواب تونس كانت تغلق ليلا كما كانت تغلق نهارا وقت صلاة الجمعة وفقا لعادة قديمة ظهرت في أواخر الدولة الحفصية عند احتلال عساكر الاسبانيول لتونس اتقاء لشر الفتنة ودفعا لهجمات البدو من الاعراب الذين كان بعض سلاطين بني حفص في دور هرم دولتهم يستنفرونهم للدفاع عنهم فيعيثون في الأرض فسادا واسترسل الأمر كذلك على عهد حكم الأتراك في كامل مدة الدولة المرادية وبقي كذلك أيضا في العصر الحسيني إلى أوائل مدة المشير أحمد باي فلما رتب الأجناد وتوفرت له العدة الكافية للاحتفاظ بالأمن العام استغنى بذلك عن غلق أبواب الحاضرة وقت صلاة الجمعة وبقي غلقها واقعا في الليل بانتظام من الغروب إلى قبيل طلوع الشمس عدا باب الخضراء وباب علاوة فإنهما لا يغلقان إلا إثر صلاة العشاء وقياسا على ذلك كانت أبواب الحارات والحومات بداخل المدينة تغلق أيضا في الليل".
كانت مفاتيح الأبواب بأيدي أشخاص معينين يسمون المحركين ولم تكن تفتح إلا في الحالات الطارئة التي تستلزم إدخال طبيب لمعالجة مريض أو جلب قابلة لتوليد إمرأة جاءها المخاض وقد استمر الأمر على هذه الحال إلى أن أصدر محمد الصادق باي قانون عهد الأمان تاركا الحرية لأهالي الحارات للتصرف فإن شاؤوا فتحوا أبوابهم ليلا ونهار بلا انقطاع والحقيقة أن حكاية غلق الأبواب هذه لم تكن في جوهرها مسألة متعلقة بالأمن العام وإنما بقضية أخرى ظلت سمة ملازمة لحكم البايات والعثمانيين لتونس وهي استنزاف مقدرات البلد وتحصيل الضرائب وهذه القضية جعلها ابن الخوجة في المرتبة الثانية وهو يفصل فيها حيث يقول أنه "بالإضافة إلى حفظ السكان كان غلق الأبواب وسيلة لضبط الأداء الموظف على المحصولات التي تجلب لتونس من مختلف الجهات حتى لا يقع إدخال شيء من الطعام أو غيره خفية بالليل ويفوت بذلك دخل كبير على البايليك".
سوف تستمر هذه السياسة الجبائية البغيضة إلى سنة 1881 تاريخ انتصاب الإستعمار الفرنسي بتونس حيث فرض الفرنسيون ترك باب سعدون مفتوحا لضمان تنقل قواتهم بين المدينة والثكنات الواقعة خارجها ولم يمض وقت طويل حتى تغيرت الصورة تماما كما يضيف ابن الخوجة فبطريقة تدريجية "وقع فتح باب الخضراء وباب علاوة وباب القرجاني وباب العلوج في الليل كما في النهار وكان آخر الأبواب فتحا في الليل مع النهار باب سيدي عبد السلام وباب سيدي عبد الله الشريف".