الماتلين أرض المتاليين والموريسكيين


كنوزنا-ياسين بن سعد

مضمّخة بالتاريخ والحكايات هي الماتلين أرض المتاليين الشامخة ، مبللة بالندى البحري ، معطرة برائحة الملح وكيف لا تكون وضفافها الرملية والصخرية بطول 6 كيلومترات من حدود الجارة رأس الجبل إلى تخوم غابة الرمال ببنزرت.

على امتداد هذه المسافة يرتفع الجبل إلى 300 متر في أعلى نقطة منه وتفصح الجروف الحجرية الحادة والمسالك الجبلية الوعرة عن لوحات بحرية رائعة تحبس الأنفاس وخصوصا في منطقة الجوابي غربا وهي تلك الأحواض المنحوتة في الصخر والتي تشبه في شكلها "الجابية" مع فارق واضح هو أن هذه الأحواض هي منتهى الموجات الغاضبة أو الهدوء الكريستاليّ الساحر الذي يجتذب أبناء المنطقة خصوصا وكثيرا من العائلات والمستكشفين ، لكن الأحواض الصخرية لا تتوقف على هذا الجزء إذ هي تشمل كامل المنطقة المسماة بـ "ورا الجبل" والتي تتواصل من غدير القصبة إلى آخر الدمنة.

الماتلين هي أيضا كاب زبيب وأطلال الميناء القديم الذي قصفته الطائرات الحربية خلال الحرب العالمية الثانية وفي هذا المكان أيضا ميناء للصيد البحري تعود إليه مراكب البحارة يوميا وبين جنباتها ما تجود به السواحل الشمالية من أسماك هي من أجود ما يوجد في تونس.

أقل من 4  كيلومترات هي المسافة بين المفترق المؤدي إلى الماتلين والعالية و"صقالة" رأس الزبيب الذي تحيل تسميته على حقول الكروم المنتشرة بالمنطقة ، والراغب في الوصول إلى هذا المكان لن يعدم حيلة فقد توصله سيارة التاكسي الجماعي أو تتوقف له سيارة واحد من أبناء المنطقة وقد يكون المشي هو الخيار الأمثل لكن في كل الأحوال فإن الرحلة ستنتهي إلى متعة حقيقية في حضرة زرقة البحر وخضرة الجبل وقد تزداد المتعة لمن كان مغرما بصيد الأسماك فعلى مقربة من الميناء حيز صخري يتهافت عليه عشاق هذه الرياضة البحرية في كل الفصول وأما المغامرون فيصعدون الجبل ثم ينزلون إلى بعض الجروف الصخرية التي تكثر فيها أسماك من الحجم الكبير كالقراض والدوراد والمناني وغيرها.

الماتلين ليست فقط هذه اللوحات الطبيعية الخلابة على مد البصر فهي أيضا مدينة قديمة وغنية بتاريخها الممتد لآلاف السنين ففي هذا المكان وكما يؤكد نيكولا كارايون nicolas  carayon في أطروحته حول "الموانئ الفينيقية والبونية " كانت قلعة ضخمة منذ القرن الرابع قبل الميلاد تحرس مدينة تينيسا (thinisa) الواقعة في رأس الزبيب ، وتينيسا كما يشير إلى ذلك عالم الآثار الفرنسي بيير سينتاس (pierre cintas) هي من دون شك إحالة على أسماك التن العابر عبر مضيق صقلية نحو السواحل الغربية لحوض المتوسط وإن حاول البعض اشتقاقها من اللغة الأمازيغية.




كانت تينيسا واحدا من أجمل الموانئ البونية وكانت فيها بيوت مطلة على الميناء ومدافن كبيرة ومنشآت مائية وحمامات وخزّافون وبحارة مهرة ومراكب ترسو وتبحر منها إلى الموانئ الأخرى لكنها قبل كل شيء كانت مدينة المصايد البحرية كسيدي داود والمهدية ومدينة القروم garum وهو صلصة الأسماك التي شكلت بضاعة رابحة حتى الحقبة الرومانية التي تميزت بازدهار كبير بقي أن هذه المدينة التي أعطت لأوتيك الصخور التي بنيت بها سوف تهجر وتختفي من قصص الرحالة القدامى ولن يبقى من تلك المدينة المينائية إلا شذرات من الأطلال حول الطنارة .

63 كيلومترا تفصل الماتلين عن العاصمة وأقل من عشرة كيلومترات عن رأس الجبل وحوالي 30 كم عن مدينة بنزرت وهذه المسافات تقطع في وقت قصير وتجعلها قبلة الكثير من الراغبين في التعرف على هذه المدينة المتربعة فوق قمة الجبل مثل حصن منيع بل لعلها قد بنيت لتكون كذلك أسوة بكل المدن التي نشأت حول الرباطات الأغلبية في بداية الفتح الإسلامي بعيدا عن الشواطئ ومنها رباطات منطقة صطفورة الممتدة من سيدي مشرق إلى غار الملح مرورا ببنزرت ومنطقة رأس الجبل.

ليست الماتلين الحالية إذن إمتدادا تاريخيا للفترتين البونية أو الرومانية بل هي مدينة نشأت خلال القرن السابع عشر على أنقاض استحكامات أغلبية سابقة مثل أغلب المدن التي أسسها الأتراك والموريسكيون المهجرون من الأندلس ولعل هندسة المدينة الحالية والتي تحاكي تخطيط المدن الأندلسية الأخرى ، تعطي فكرة واضحة عن الحقبة التاريخية التي ولدت فيها مدينة "المتاليين" الذين تجمعهم أحياء سكنية حافلة بالرموز الحضارية.

لا يمكن حقا الجزم بأصل تسمية المدينة الحالية فالدكتور عزالدين قلوز يرجح أنها نسبة إلى مدينة "ميتيلان" Mytilène عاصمة جزيرة لسبوس اليونانية وهي مسقط رأس عدد من الجنود الانكشاريين الذين حلوا بالمنطقة بعد الاستقرار العثماني لكن الثابت أن الماتلين ذات هوية متعددة الأبعاد فهي تركية وأندلسية وعربية وأمازيغية تدل على ذلك أحياؤها القديمة عين البلد وسيدي عيّاد وحومة القصر وعين شاهرلي والدّوامس وهذه الأحياء قد تشكلت بالأساس حول عين البلد وبعض العيون المائية الأخرى المتدفقة التي استعملت للشرب ولري البساتين وخصوصا من قبل الأندلسيين البارعين في الزراعة والتقنيات المائية.

من الواضح أيضا أن الاستقرار البشري في هذه المنطقة ومنذ العصور السحيقة لم يكن مرتبطا فقط بصيد التن والتجارة التي كانت بين قرطاج والمرافئ المتوسطية عبر مرافئها البحرية وإنما هو أيضا متصل بتوفر مقاطع الحجارة والأراضي الخصبة والمنابع والبحيرات المائية وهي عديدة في الماتلين ومنها كما ذكرنا عين البلد وأيضا عين سامورجي وعين شاهرلي وعين السمار وعين الشفاء وعين الباردة وعين الريحان وعين المغيرة وعين العوينة وغدير العين وغدير القصبة وغيرها.

أحدث أقدم

نموذج الاتصال