كنوزنا - ياسين بن سعد
حكاية الفرنان والفلين في الشمال الغربي حكاية قديمة ، قدم الحضارات التي استعمرت هذا المكان فمن سواحل طبرقة أو ثابركا البونيقية ثم الرومانية كانت أخشاب الغابات والفلين والرخام والحيوانات المفترسة تحمل إلى روما وأما الفرنسيون فكانت أطماعهم أكبر فهم قد بدؤوا منذ القرن السادس عشر بتأسيس مصرف سيدي مشرق ومنه كان يتم نهب تونس والاستيلاء على مقدراتها وقد كان في نيتهم أيضا السيطرة على طبرقة لكن مشروعهم الإستعماري توقف لفترة قبل أن ينجحوا في تحقيقه نهاية القرن 19.
كانت الأخشاب والزيت والحبوب والمرجان والفلين والرخام على رأس الثروات التي يتم نهبها وأما تجميع الفلين فلم يتحول إلى نشاط إقتصادي قائم بذاته إلا في أواخر القرن التاسع عشر وكانت مداخيله تذهب إلى المستعمرين الفرنسيين الذين استولوا على الغابات والمراعي والأراضي الخصبة.
على قدم وساق تجري عملية جني الفلين/ الخفاف في عين دراهم وطبرقة هذه الأيام بعد أن افتتح الموسم منذ فترة ليشكل مصدر دخل لمئات الآلاف من سكان المنطقة وبين أهازيج الغناي ونزع القشرة أي لحاء الفلين تمضي الساعات علما بأن هذه القشرة لا تجمع من أي شجرة إلا بعد 12 سنة من النضج وفي كل عام يتم تحديد الأشجار الجاهزة للجني.
تمتد المناطق الغابية في تونس على ما يقرب من 1,3 مليون هكتار، أغلبها في الشمال والوسط وتلعب دورا هاما في استقرار التربة كما تأوي أعدادا كبيرة من الحيوانات والطيور والزواحف أما المراعي فهي تمسح 4.4 مليون هكتار وتمثل منظومات طبيعية متميزة.
90 بالمائة من مساحة الغابات في بلادنا على ملك الدولة والباقي يملكه الخواص فيما تمتد الغابات الحدودية على 500 كلم وقد شهد الغطاء الغابي تطورا ملحوظا من 2,5 بالمائة في بداية الإستقلال إلى 8,5 سنة 2022 أما عدد الحدائق الوطنية بتونس فيبلغ 17 حديقة وتوجد ببلادنا 27 محمية طبيعية و256 منطقة رطبة 42 منها مصنفة ذات أهمية رامسار وبمناطقنا الطبيعية مخزون وراثي من الحيوانات يناهز 500 صنف.
يبلغ عدد سكان الغابات نحو مليون شخص أي 23 بالمائة من مجموع سكان الريف وتوفر الغابات ما يقرب من 30 بالمائة من دخل هؤلاء السكان.
وقد شهدت الغابات خلال السنوات الأخيرة وخصوصا سنة 2022 تفشيا لظاهرة موت الأشجار وشمل ذلك غابات الصنوبر الحلبي بالقصرين وغابات الفلين بجندوبة نتيجة لطول فترة الجفاف والحرائق التي أضرت بمساحات كبيرة علما بأن عدد الحرائق في الغابات التونسية تراجع خلال صائفة 2024 إلى 246 حريقا أتلفت 733 هكتارا ، مقابل 287 حريقا أتلفت 5579 هكتارا في صائفة 2023 كما أن 43 % من الحرائق المسجّلة في صائفة 2024 لم تتجاوز مساحاتها المتضرّرة الهكتار الواحد.
يتم تثمين بعض المنتوجات الغابية فكمية الخشب التي تم بيعها سنة 2022 تقدر بـ 307 آلاف م3 ويعد الفلين أيضا من المواد التي تروج محليا وخارجيا مع الإكليل والريحان والصنوبر والخروب وخلال الأعوام الأخيرة تراجع الإنتاج إلى 4000 طن بعد أن كان في حدود 9 آلاف طن خلال الثمانيانت وتزايدت المخاطر التي تتهدد غابات الفلين ما استدعى دق ناقوس الخطر من المرصد الوطني للفلاحة الذي نبه إلى إمكانية فقدان 18 ألف هكتار من غاباتنا في أفق 2050 بسبب الاستغلال المفرط والتغيرات المناخية والحرائق.
ووفق إدارة الغابات فإن إيرادات بيع الفلين تقدر بنحو تسعة ملايين دينار سنويا وهو مبلغ متواضع ويمكن مضاعفة المدخول بالتوجه نحو التصنيع محليا إذ لا يخفى على أحد أن 90 بالمائة يصدر إلى الخارج وبالدرجة الأولى إلى السوق البرتغالية التي تستحوذ على 59 في المئة من الإنتاج السنوي متبوعة بإيطاليا التي تستورد 11 في المئة من إنتاج الفلين التونسي.
نأتي الآن إلى أجواء حضائر الفلين المنتشرة في الشمال الغربي والتي تشكل إطارا مهنيا وإجتماعيا حميميا يجمع أبناء المنطقة في كل فترة صيفية وقد أمكن لنا عند زيارتنا إلى عين دراهم معاينة هذه الأجواء والاطلاع على عملية تجميع الفلين.
عندما سألنا أبناء عين دراهم عن الجزء من الغابة الذي توقفنا فيه قالوا لنا بأن إسمه بلفيير اشتقاقا من الفرنسية (belle fiere) لكن الغابة معروفة في الحقيقة باسم (belle foret / الغابة الجميلة) كما هو مكتوب على اللوحة المعلقة على إحدى الأشجار ولعل من اختار الإسم لم يبالغ مطلقا فالطريق غاية في الجمال وكيف لا تكون وحولها أشجار باسقة ومعمرة بعضها عمره 400 سنة وأزهار ونباتات وطيور وحيوانات.
لا تعرف جبال عين دراهم عند أهل المنطقة بجبال خمير فقط ، فخمير تدل على سلسلة جبلية تصل إلى حدود مدينة القالة الجزائرية وإنما هي عندهم باسمائها المميّزة كجبل البير وجبل الديس وجبل بوفرنانة وجبل الخمايرية ولبعضها رمزية دينية أو عروشية كجبل بوفرنانة الذي ينسب إلى حارس الغابة والولي الصالح.
ولهذا السبب يكتسي العمل في حضائر الفرنان في كثير من الاحيان صبغة عائلية بحتة فأبناء العروش الموجودين في المكان هم الذين يشكلون النسيج المهني بمفرداته ومصطلحاته الخاصة بأهل الشمال الغربي وربما كانت كلمة الشواقري هي الأهم في القاموس المحلي فهي تعني أعلى درجات الخبرة والقدرة على استخلاص الفلين بتلك الفأس الصغيرة التي تنفذ في اللحاء لتشقه وتزيحه دون أن تتلفه وأما المهن الأخرى بما فيها المشرفون الإداريون والعملة فكل ما يقومون به إنما يتكامل مع عمل الشواقرية الذين تراجع عددهم بشكل كبير خلال الأعوام الأخيرة.
يتم تحويل المحصول محليا ثم يصدر إلى البرتغال ليصنع من هذه المادة الخام بضائع باهضة الأثمان تدخل في صناعة السفن والأسلحة والسيارات وفي تغليف أسقف المنازل والأبواب والشبابيك وفي الآلات الزراعية والعوّامات وشباك الصيد وحشو طلقات البنادق فضلا عن سدادات القوارير التي ينتج منها سنويا 12 مليار سدادة ولا ندري صراحة كيف تعجز بلادنا عن تثمين هذا المنتوج محليا وعن تركيز وحدات صناعية مختصة قد تدر علينا مداخيل هامة بالعملة الصعبة.