معالم المدينة بين الإنقاذ والضياع (6) ... دار بن أبي الضياف



        كنوزنا – ياسين بن سعد

في الدرب الطويل الذي سلكناه ونحن نتجه إلى دار أحمد ابن أبي الضياف كانت الأسئلة تتزاحم في الذهن ..ماذا تغير يا ترى في هذا المعلم الذي كتبنا عنه أكثر من مرة؟...هل تم إنقاذه؟...هل صار تابعا للدولة أو جرى تسوية وضعيته العقارية ؟

عندما وصلنا إلى نهج بن ضياف الواقع في الربض الشمالي لم نكن متفائلين حقا فقليلة هي المعالم التاريخية التي تم إنتشالها من براثن التهميش والنسيان ومنها ما كان محور مقالاتنا السابقة وبالفعل فحال هذا البيت الذي شهد تدوين كتاب الإتحاف لم يتغير … مازالت تلك الواجهة الكئيبة المهملة تستقبل العابرين والفضوليين ومازال ذلك الباب الأزرق المسمّر المتداعي يشكو حاله فيما المشربيات تطل بخجل على الفسحة التي كانت خاصة بهذه الدار وملحقاتها والتي كانت آخر نقطة في زنقة ابن أبي الضياف قبل أن تفتح وتصير نهجا.

قد لا تكون دار بن ضياف كما يسميها أبناء المنطقة قصرا من القصور الفخمة التي تحفل بها المدينة العتيقة لكنها تمتلك قيمة رمزية باعتبارها المكان الذي أقام به شاهد مهم على العهد الحسيني بأسراره ومنعطفاته وأحداثه الصاخبة وما تخللها من فتن وحروب وصراعات وإنجازات وفساد ومظالم وثورات أيضا.

في خلوته ببيته هذا دوّن ابن أبي الضياف كل الأحداث التي اطلع عليها بالعين المجردة والسماع أو من خلال الوثائق الرسمية والمراسلات السرية ورحلاته الديبلوماسية وبعضها كان صادما ومروعا كنهاية أبي المحاسن يوسف صاحب الطابع وعمليات النهب المنظم لمقدرات البلاد من الحكام وخدامهم من المخازنية وغيرهم .

لم يكن ابن أبي الضياف ليدرك تلك المنزلة في قصور البايات لو لم يعمل والده رئيسا للكتبة مع صاحب الطابع ولو لم يتلق تعليما رفيعا في رحاب جامع الزيتونة ومدارس باب سويقة على أيدي نخبة من علماء الحاضرة وحتى إنتماؤه إلى قبيلة أولاد عون العربية المعروفة بولائها للحسينيين فلم يكن يعني الشيء الكثير فهي ليست قبيلة مخزنية عريقة كقبائل صفاقس والساحل أوالشمال لكن تكوينه العلمي والثقافي ومهاراته الأدبية واللغوية سوف يمكنانه من البروز ولفت الأنظار وسيتمكن كما يقول الصادق الزمرلي في مؤلفه عن أعلام تونس من الولوج إلى البلاط الحسيني فسمي من قبل الباي حسين في1827 مكلفا بالكتابة في ديوان الإنشاء "وعهد إليه بأمانة سره تحت إشراف الوزير الأكبر شاكير صاحب الطابع... » وقد توجت هذه الثقة المتزايدة بإيفاده سنة 1830 في مهمة رسمية إلى إسطنبول كان الهدف منها نقل أعتذار باي تونس عن مساندته إحتلال الفرنسيين للجزائر وقد حافظ على مكانته تلك في زمن مصطفى باي قبل أن يترقى ويصبح من أهم المقربين من ولي العهد والباي أحمد بن مصطفى الذي تولى الحكم خلفا لأبيه في 10 أكتوبر 1837.

بداية من هذا التاريخ أصبح أحمد بن أبي الضياف كاتب سر االباي ومحرر المراسلات الهامة وسوف تتاح له الفرصة مرة أخرى لزيارة إسطنبول ثم مرافقة أحمد باي في رحلته الشهيرة إلى فرنسا(1846) ورغم تراجع حظوته في البلاط بعد تولية محمد باي في أواسط سنة 1855 إلا أنه كان مساهما أساسيا في صياغة عهد الأمان الذي سيصدر بعد سنوات قليلة في فترة تولي محمد الصادق باي.

وحري القول أن هذا النص لم يكتب إلا بعد تدخل سافر من قنصلي فرنسا وأنقلترا وتهديد عسكري مباشر لتونس عبر الأساطيل الحربية بعد إعدام مواطن يهودي وكأن الماضي يحاكي الحاضر ولا شك أيضا في كون بعض ما أراده الأجانب قد لاقى هوى في نفس بن ضياف المتماهي مع خير الدين في موضوع تعصير نظام البلاد.

كان قانون عهد الأمان الشرارة الأولى التي أدت إلى إندلاع ما بات يعرف بثورة علي بن غذاهم وهي في الأصل ثورة على جهل واستبداد حكم العديد من البايات وفساد بطاناتهم التي أثقلت الشعب بالديون والجباية وأوصلت البلاد إلى حافة الإفلاس وعلى الرغم من أن هذه الثورة قد أخمدتها الخيانات واقتيد في أعقابها بن غذاهم إلى سجن الكراكة ليموت فيها فإنها قد رسمت حدا فاصلا في تاريخ تونس فما كان مجرد قانون لتحسين أوضاع واليهود والأوروبيين أصبح مقدمة لاحتلال تونس وهو ما تم في 1881.

لقد قدم لنا ابن أبي الضياف صورة عن النهاية الدرامية للثائر علي بن غذاهم وكأنه يرثيه ويكشف بطش وغدر ملوك الاطلاق وقناعة باطنة بأن زمن البايات قد أفل فقال "أُوقف ببطحاء باردو وأحاط به المخازنيّة وغيرهم ممّن لا صناعة لهم من أوباش النّاس، هذا يضرب رأسه، وهذا يشتمه، وهذا يبصق في وجهه، وهذا ينتف لحيته، يفعلون ذلك تزلّفا للباي لأنّه بلغهم أنّه بروْشنه ينظر ذلك من حيث لا يرونه وخرجت له عجوز من دار الباي مضحكة وقالت له أنت الذّي تريد أن تكون سيّدنا، وشتمته، وهو مع ذلك ثابت الجنان، وقال لبعض الأنذال في ذلك الموقف هلّا أتيتم لي وأنا على فرسي، أمّا إذا أتيتكم بنفسي فلا فخر لكم والحالة هذه".

لم يكن من باب الصدفة أيضا أن ابن أبي الضياف وهو يعكف على كتابة مؤلفه التاريخي قد اختار له كعنوان "إتحاف أهل الزمان بأخبار ملوك تونس وعهد الأمانفهو كان يريد أن يزخرف مزايا الحكم المستند إلى دستور الأمر الذي تجلى في كتابات أخرى سابقة له تعلقت بمسائل فقهية وشرعية ومن ثمة فهو سيكون صدى لما كانت تدعو إليه الدول الغربية تحت يافطة عريضة هي ترسيخ الحقوق والواجبات ومن وراء ذلك تمكين الموالين لها في دواليب الدولة التونسية وقد أفضى ذلك إلى ما نعرفة من وقائع وأحداث كارثية سجلها المؤلف نفسه لا وبل كان شاهدا عليها.

ما وراء المقاصد لا ينقص مع ذلك من أهمية كتاب الإتحاف بأبوابه المختلفة والذي ابتدأه كاتبه في جانفي 1862 ليكتمل بعد أكثر من 10 سنوات أي في 1873 وفيه سرد دقيق لتاريخ تونس ولحياة البايات وطبائعهم وحال الرعية التونسية وما حاق بها من ضيم وظلم لا ينكره عاقل وقد استند المؤلف كما ذكرنا آنفا إلى كل ما وصل إليه مباشرة أو بواسطة الشهادات والإفادات والوثائق والرحلات والتقارير والمراسلات وكل هذا دوّن في البيت الكائن بباب سويقة ولم يكن خاليا قطعا من الإنطباع والمواقف الشخصية لابن أبي الضياف من الملوك والشخصيات التي عاصرها واحتك بها.

دار ابن أبي الضياف ظلت حتى آخر زيارة لنا قبل فترة قصيرة بيتا مهجورا متروكا لمصيره وهي التي كانت في الأصل قصرا بديعا بملحقاته وبهندسته المميزة وساحته الفسيحة وجدرانه المزوقة بالجليز والحافلة بالألوان وطابقه العلوي أو العليّ الخاص بالضيوف والمناسبات العائلية...لم تثمن الدار ولم تستعد جمالها القديم ويبدو أن الدولة لن تهتم باستعادتها فتثمينها يحتاج إلى أموال طائلة.



أحدث أقدم

نموذج الاتصال