بنزرت ...ملتقى الحضارت

 

كنوزنا - ياسين بن سعد

عرفت بنزرت قديما باسم هيبو أكرا وهي في الأساس لم تكن سوى مركز بحري تابع لمدينة أوتيكا العريقة أم المدن الفنيقية التي بناها البحارة القادمون من مدينة صور اللبنانية تأسس في 1100 قبل الميلاد .

لاحقا أي خلال الفترة الرومانية سوف تعرف بنزرت باسم هيبو دياريتوس كما سماها يوليوس قيصر بعد أن احتلها أغاطكل في 309 قبل الميلاد ليرتبط تاريخها منذ تلك الفترة بالحروب والغزوات وتسقط في يد الوندال. في الحقيقة لم تتوقف بنزرت على السمات الحضارية التي ذكرناها إذ هي أيضا بنزرت العربية – الإسلامية أو "بانزارت" ذلك الثغر الشمالي المكلف بحماية ظهور المسلمين وهي قد كانت كما يذكر البكري في المسالك والممالك قلاع يأوي إليها أهل تلك الناحية اذا خرج الروم غزاة الى بلادهم فهي مفزع لهم وغوث وهي رباطات للصالحين ، وقال محمد بن يوسف في ذكر الساحل من طبرقة الى مرسى تونس : مرسى القبة عليه بنزرت وهي مدينة على البحر يشقها نهر كبير كثير الحوت ويقع في البحر وعليها سور حصين وبها جامع وأسواق وحمامات وبساتين ...وافتتحها معاوية بن حديج سنة إحدى وأربعين (661 ميلادي) وكان معه عبد الملك بن مروان".

أما الادريسي فيتحدث في نزهة المشتاق عن تموضع بنزرت وإقليم سطفورة البربرية الذي تنتمي اليه قائلا أنه يتشكل من ثلاث مدائن أقربها الى تونس أشلونة وتينجة وبنزرت وهي مدينة على البحر حصينة أصغر من مدينة سوسة...ومدينة بنزرت صغيرة عامرة بأهلها وبها مرافق وأسواق قائمة بذاتها وسواء انتمت بنزرت الى إقليم أو هي كانت مستقلة بذاتها كمدينة فان الثابت تاريخيا هو انها فضاء عمراني ضارب بجذوره في عمق التاريخ وملتقى حضارات ونقطة مواجهات حربية كبيرة.

لا شك أن الموقع البحري المميز للمدينة وقربها من أوروبا والممالك والامارات التي قامت فيها قد جعل منها مركزا عسكريا استراتيجيا حصنه البيزنطيون عبر الجزء المتمثل في القصيبة والقصبة وهما من أقدم الانشاءات في المدينة لكن هذا البعد العسكري سوف يترسخ لاحقا مع كل الغزاة الذين جاؤوا الى المدينة وأيضا خلال الفترة التي أعقبت الفتح الإسلامي كما يشير الى ذلك محمد علي الحبيب في دراسته " ثغر بنزرت عبر التاريخ " فالمدينة كانت محاطة بمنشآت عسكرية متنوعة من قلاع وحصون ورباطات أو هي كانت قريبة منها ومن ثمة فان"الثابت هو أن المشهد الدفاعي شكل الميزة الرئيسية لجهة بنزرت نظرا لانفتاحها على المحيط المتوسطي مركز العالم الى نهاية الفترة الوسيطة وهذا الانتماء للفضاء المتوسطي جعل من المنطقة دائمة الحضور في الوثائق الأوروبية والعثمانية وخاصة على الخرائط والمرشدات البحرية".

يقدم ناجي جلول فكرة أكثر تفصيلا عن هذه التحصينات العسكرية الإسلامية التي ترجع الى العصر الأغلبي ذاكرا أن من أبرزها حصن أبي المهزول ورباط أبي صقر وقلعة أبي خليفة بالرأس الأبيض وقلعة درنة بسيدي مشرق وهذه الأخيرة هي التي بنى عليها الفرنسيون مصرفهم التجاري.

رغم تسميتها بالقصيبة أو" الحصن الصغير " فان هذا المكان بالذات هو الذي شكل المرتكز الدفاعي الأول للمدينة منذ العصور القديمة ويذهب محمد علي حبيّب في أطروحته حول بنزرت الى حد القول بأن القصيبة وفي غياب منشآت للحكم بالقصبة المقابلة كانت والى حد العصر الوسيط مقر الحكم وأما عن مكوناتها الأصلية فان ما هو قائم الآن لا يسمح بإصدار رأي حاسم بشأنها فالقصيبة عرفت تغييرات واضافات عبر العصور من ذلك أن الأغالبة في القرن التاسع قد أجروا عدة تحسينات عليها أما بنو الورد الذين استقلوا بحكمها بعد سقوط الصنهاجيين فقد بنوا الجزء نصف الدائري من الحصن فيما قام علي باشا في أواسط القرن الثامن عشر بأشغال أخرى لتقوية الأسوار وتعزيز تحصينات المدينة.

أهمية القصيبة سوف تتجلى أيضا من خلال المعالم المحيطة بها فهي كما يقول حاتم سعيد تمثل حيّا منفردا على شكل شبه جزيرة يطلّ على البحر ويوجد على الضّفّة الغربیة لمدخل الميناء القديم للمدينة ويحتوي هذا الحيّ على جامع القصيبة وبرج سيدي الحنّي الذي أسّسه البيزنطيون في أوائل القرن 7 م (القصيبة تسمى أيضا باسم هذا الولي الصالح) وهو يكوّن نظاما دفاعيا مع قلعة القصبة المواجهة له لحماية مدخل الميناء القدیم ومراقبة حركة الملاحة".

على الجهة المقابلة للقصيبة تتمركز القصبة بأسوارها العالية التي تمتد لأكثر من 100 متر وترتفع الى 10 أمتار وهي تتخذ شكل مستطيل يصل الى حدود الواجهة البحرية من جهة الميناء القديم. والقصبة ليست فقط ذلك الحصن العسكري المنيع فقط بل هي اشبه بحي مستقل بذاته داخل المدينة العتيقة ببنزرت تبلغ مساحته الجملية 12932 مترا مربعا وتضم معالم أساسية ومهمة في بنزرت منها جامع القصبة والجامع الكبير وجامع وتربة سيدي المسطاري ولعل اتساع مساحة هذا الفضاء العمراني الذي ارتبط الى حد كبير بالفترة التركية – العثمانية هو ما يفسر تسميته بـ "المدينة أوالمدينة الصغيرة".

لا شك أن القصيبة والقصبة وما يرمزان اليه من أحداث وحقب حضارية يشكلان معلمين جديرن بالمشاهدة لا بل إن الزائر الى المدينة لا بد من أن يسلك تلك المدارج الحجرية ليشرف على الميناء القديم ويرى جمال هذين الصرحين البديعين اللذين يحكيان قصة بنزرت واللذين يشكلان بما يضمانه من معالم تاريخية ودينية وعسكرية روح مدينة بنزرت القديمة.

كان الميناء القديم حلقة الوصل الوحيدة بين بنزرت وبحيرتها الممتدة حتى 1895 ومع أن الروايات التاريخية حول إنشائه غير ثابتة تماما فإن الأرجح أنه يعود إلى بدايات الفترة الرومانية أي إلى القرن الرابع قبل الميلاد وقد ظل طيلة تاريخه جزءا من هوية المدينة البصرية والثقافية يجتذب إليه الغزاة والتجار والرحالة والمهاجرين من أصقاع الدنيا.

أحدث أقدم

نموذج الاتصال