كنوزنا-ياسين بن سعد
جامع محمد باي هو أحد أجمل المساجد الحنفية في تونس إن لم يكن أجملها على الإطلاق ولو إكتمل بناؤه وشيدت منارته المثمنة لأصبح صرحا معماريا ودينيا فريدا من نوعه في العالم الإسلامي.
يتمركز هذا المعلم التاريخي والديني في قلب الربض الشمالي ربض باب سويقة وفي مقابل زاوية الإمام محرز بن خلف ولهذا لم يعرف قط لدى العامة إلا بجامع سيدي محرز بل هذا ما أراده بانيه فهو قد اختار بدوره أن يسميه بجامع سيدي محرز تكريما لهذا الولي الصالح الملقب بـ "سلطان المدينة"واتباعا لعرف السلاطين العثمانيين وبايات تونس.
قد يكون الجامع من أبرز مآثر هذا الباي الذي احتاج المؤرخون إلى صفحات عديدة لكتابة سيرته وسيرة أخيه علي باي وعمه محمد الحفصي المليئة بالأحداث الدموية ويمكن لمن أراد أن ينظر بالتفصيل فى تلك الحقبة من تاريخ تونس أن يطلع على بعض المصادر الأساسية التي وثقت حكم المراديين وخصوصا الفتنة المستمرة بين هذين الأخوين والتي تحولت في مرحلة من المراحل إلى ما يشبه اللعبة العبثية التي تثار فيها الفوضى وتقطع الرؤوس ويلقى بها في ساحة القصبة وهذه الفتنة لم تنته إلا بمقتل علي باي واستتباب الأمر لمحمد باي.
والحقيقة أن الأخوين قد تقاسما الأدوار فلم تنج منطقة من تونس من حربهما الضروس وحتى تلك المآثر التي أشرنا إليها آنفا فلم تكن لتحصل إلا باستقرار الأوضاع في البلاد وقد عدّدها مقديش في نزهة الأنظار فقال"ثم شرع محمد باي رحمه الله تعالى في فعل الخيرات فاحتفر بئرين بطريق القيروان وبنى بها مواجل كثيرة وكذا بطريق قفصة آبارا وصهاريج تضاهي مصانع الأقدمين وأخرى بطريق سوسة وأحيى مصانع صفاقس بسور عليها بعد دثورها وأجرى المياه العذبة لباجة وبنى مدرسة ومسجدا ببلد الكاف ومدرسة ومسجدا بباجة ومدرسة بقابس مجاورة لسيدي أبي لبابة الأنصاري وفي سنة ثلاث ومائة وألف هـ 1691م أنشأ أسواق الشواشية الثلاث وكانت دورا ومخازن فاشتراها".
هكذا يتبين لنا الإرث المعماري الذي تركه محمد باي وقد تصدره جامعه الفخم وعن تاريخه يتحدث محمد بن الخوجة فيقول "كانوا يسمونه بالجامع الجديد كما وقفت عليه برسم حبسيّته ...وقد بنى محمد باي المرادي جامعه المتحدث عنه على قواعد شبيهة بجامع السلطان أحمد الثالث باسلانبول وشرع في بنائه سنة 1104هـ1692م ومات قبيل تمامه في 1108هـ1196م فأتم بقيته أخوه رمضان باي عدا صومعته"
يعتقد محمد الباجي بن مامي أن أهمية هذا الجامع تكمن في "أنه انفرد بالنمط المتأثر بالجوامع التركية وهو ما لا نجده إلا في عدد قليل جدا من الجوامع في البلاد العربية إلا أنه ورغم هذا فإن جامع محمد باي في شكله العام وفي نواحيه الفنية يختلف في العديد من النقاط عن الجوامع التركية عكس جامع محمد علي بقلعة صلاح الدين المعتبر الجامع الوحيد في البلاد العربية الذي يشكل نسخة مطابقة للأصل لجوامع إسطنبول كجامع الأحمدية والسليمانية وبايازيت وغيرها المتأثرة بآيا صوفية والتي أبدع في تصميمها المعماري سنان أما جامع محمد باي فيبدو أنه تأثر في أغلب نواحيه المعمارية وفي هيكله الخارجي بجامع ياني فاليدي yani valide".
لم تبن لهذا الجامع المصنف معلما تاريخيا محميا منارة خاصة به وأما المنارة الحالية المرفقة به فهي في الأصل كانت تابعة لجامع الفلاري وهي على الأرجح تعود إلى القرن الحادي عشر أي إلى الفترة الحفصية وليس إلى العهد العثماني ويروي بن الخوجة خلفيات عدم بناء المنارة قائلا "واعلم أن الصومعة الموجودة لهذا الزمان بصحن الجامع ليست في أصلها من أبنية الجامع كما سيأتي تفصيله لذلك لم تكن على الذوق الشرقي الذي بنيت على مقتضاه أروقة الجامع وبيت الصلاة وقبابه الفخمة ومنبره الجليل الجميل وسبب ذلك والله أعلم أن محمد باي وأخاه رمضان باي توفيا قبل إتمام صومعة الجامع الأصلية وكانت بزاوية الصحن الكبير بين الجوف والغرب أقيمت على قاعدة صخرية عظيمة بلغ ارتفاع ما تم من بنائها بالشكل المثمن إلى نحو من عشرة أذرع وتعطل إتمام بناؤها تشاؤما بموت محمد باي المرادي ثم بقتل أخيه رمضان باي قبل التمام.
يدلك على صحة هذه النظرية ما وقفت عليه ببعض كناشات السلف من أن المشير أحمد باي لما حضر ذات مرة بختم الشيخ الجد رأى عند دخوله لصحن الجامع وجود خراب ببعضه فاستحضر وكيل الوقف وسأله عن سبب ذلك فأجاب بعدم توفية الدخل بالخرج فلم يقنعه هذا الجواب وأمر بعزله وولى مكانه الشيخ محمد معاوية اختيار عساكر الحنفية فأجرى الاصلاح اللازم وأراد إتمام عمارة صحن الجامع ببناء الباب الذي بناه المؤسس جوار الصومعة ولم يتمّه مثلها وتشاور في ذلك مع إمام الجامع فقال له رأي حسن ولكن سعادة الباي ربما يتشاءم من ذلك فأخذ الوكيل على عهدته مراجعة المشير أحمد باي في النازلة ولما بسطها لديه قال له لو فعلت ذلك لأمرت بقطع رأسك فإياك أن تعيد لي هذا الطلب".
لاحقا وتحديدا في 1307هـ/ 1890 م تم هدم ما تم بناؤه من الصومعة الأصلية
باستعمال المتفجرات ففؤوس العمال لم تكن تؤثر فيها وأصبح مكان قاعدتها مجموعة من الدكاكين التي ينتفع الجامع بريعها وألحقت صومعة جامع الفلاري كما أشرنا بجامع محمد باي وهي صومعة صغيرة ومربعة الشكل كالصوامع المالكية وخالية من الزخارف خلافا لمبنى الجامع نفسه وملحقاته ولعل محمد الباجي بن مامي أفضل من يفصل عمارة هذا الجامع وغيره من الجوامع الحنفية في تونس إذ يقول أن هذا المعلم الحنفي امتاز عن غيره "ببعض الخاصيات أهمها اعتماد السقف المتكون من قباب متفاوتة الحجم على أربع دعامات ضخمة لذلك لا نجد في بيت الصلاة الأعمدة التي اعتدنا وجودها في كل المساجد التونسية فلا تحتوي بيت الصلاة هذه على البلاطات والمسبكات المعهودة.
تبدو بيت الصلاة من الخارج على شكل هيكل مكعب تتدرج في فضائه المساحات الكروية الشكل فتبدو القبة الوسطى مرفوعة على رقبته تتخلها ثماني نوافذ وتعلوها طاقية ذات شكل نصف كروي في حين أن القبيبات الأقل ارتفاعا لا تتخللها إلا أربع نوافذ وتنتهي كلها برمانة من ثلاث عناصر كروية يعلوها هلال".
إن الواقف بصحن أو بيت صلاة هذا المعلم الديني والتاريخي القديم سوف يعاين بسهولة العناصر الجمالية والهندسية الفريدة من نوعها التي يحفل بها كلا الفضاءين لا بل إن قباب الجامع تظل المشهد المهيمن في هذه المنطقة من الربض الشمالي وبها يستدل على سوق وزاوية سيدي محرز وربما تكون دراسة شيراز مصباح الأكثر غوصا وتدقيقا في التفاصيل الهندسية والزخرفية فهي قد نجحت في استخراج كل التغييرات والتحولات التي طرأت على هذا المعلم منذ إنشائه وتقول مصباح "وضِعت الزخرفة الهندسية بجامع "محمّد باي"على مختلف المواد من جصّ وسيراميك كما وضعت على بعض الأسطح الرخاميّة والخشبيّة والحديديّة وتحتل هذه الزخرفة لوحدها مساحات واسعة بالرّغم من أنّها كانت تغطي، منذ ظهورها بتونس في الفترة الإسّلاميّة، مساحات صغيرة وتُوضَع عموما داخل أفاريز وأشرطة ضيقة رقيقة لتكون، في بعض الأحيان، حشوا لأشكال زخرفيّة ".
تخلص الباحثة في دراستها إلى أن "تعددالتّـأثيـرات الفنّيّة لجامع "محمّد باي"ساهم في إنشاء أشكال معمارية وزخرفيّة مختلفة جدا فالتّأثيرات المحليّة الموروثة عن الفترات السّابقة والتّأثيرات الأندلسية التّي أدخلها اللاّجئون الأندلسيون، وبطبيعة الحال التّأثيرات العثمانية تجمّعت كلّها لتشكّل تُحفة معتبرة في تاريخ تونس الإسلاميّة".
لا شك أيضا أن الديكور الداخلي للجامع قد شهد بدوره تغييرات كثيرة بين 1964و1982كما تقول الباحثة اعتمادا على دراسة عميقة لأرشيف الصور القديمة بالمعهد الوطني للتراث دون أن يتغير الجانب الهندسي والشكلي الأصلي للجامع وهذه ملاحظة مهمة لم ترد في الدراسات الأخرى المتعلقة بجامع محمد باي المرادي.
نأتي الآن إلى الجانب العلمي والديني وفي هذا السياق يقول محمد بن الخوجة "وأول مدرس أقيم لرواية الحديث هو العلامة الشيخ محمد قويسمصاحب كتاب سمط اللآل ...كما تولى الخطبة والإمامة به العلامة الشيخ حمودة بن الخوجة ...وختم الحديث بهذا الجامع ينعقد في تالثاني والعشرين من شهر رمضان وكان الباي حمودة باشا لا يتخلف عن ختم إمامه القاضي الشيخ أحمد بن الخوجة الأول وهذا الفقيه هو من أحيى مشروع الأختام دراية بجوامع تونس".
يذكر بن الخوجة أيضا قصة طريفة مفادها أن محمد باي رأى في منامه أن الجامع قد هدم والناس يتسابقون لأخذ أنقاضه فقص هذه الرؤيا على بعض المفسرين فقال له أن له في هذا البيت نصيبا والباقي هو للناس وقد أقر الباي بالفعل بأن المال الذي بنى به الجامع فيه نصيب ورثه عن والدته والباقي من أموال الرعية.