كنوزنا - ياسين بن سعد
طريق البهجة والمتعة هو طريق سيدي مشرق...كلما عدنا تمتلء الروح بالطمأنينة والسعادة ويتيه البصر في جمال الغابة وسحر جبل شيطانة المكلل بالخضرة ، العابق برائحة الطين وعطر الزعتر والإكليل.
نسأل أنفسنا في أحيان كثيرة : هل يوجد مكان أجمل من هذا وأكثر هدوءا يمكن أن يمضي فيه أحدنا وقته ويحيا فيه ، لكن مشاغل الحياة تحملنا بعيدا عن سيدي مشرق فنغادرها دائما وفي القلب رغبة دفينة في العودة والبقاء.
تبعد سيدي مشرق نحو 30 كلم عن سجنان التي تشكل نقطة الانطلاق الأقرب إليها ولا تزال المنطقة تتخذ شكل قرية صغيرة فيها بعض المرافق البسيطة ومخيم إيكولوجي ويربطها بمحيطها طريق معبد ليس في حالة جيدة.
أمازيغية الجذور هي سيدي مشرق ككل الأماكن التي احتضنت الوجود البشري في مرتفعات مقعد وخمير ومنها سجنان القريبة بقي أن سيدي مشرق هي أيضا ساحل الحضارات القديمة التي استوطنت المنطقة وربما كانت الآثار الأكثر وضوحا هي تلك الراجعة إلى الحقبة الرومانية وهي لتجمع سكني صغير حول ميناء تجاري كانت فيه بيوت وحمامات ومرافق تعكس الحركة التجارية والاجتماعية النشيطة التي كانت قائمة على طول السواحل الشمالية للبلاد.
يقدم ناجي جلول معطيات إضافية فيقول أن الأغالبة قد " أقاموا بهذه القرية الرومانية التي اشتهرت بسمكها في العصر الوسيط رباطا أدمج في ما بعد في مباني مصرف فرنسي مازالت آثاره قائمة حذو المقبرة والميناء"وهذا المصرف الذي أسسه تجار من مرسيليا كان قطب الرحى في الاستيلاء الفرنسي على خيرات تونس قبل استقرار نظام الحماية الاستعماري بصفة رسمية.
تمركز الفرنسيون في أواخر القرن السادس عشر في رأس تامكارت الممتد من رأس السراط إلى كاب نيقرو مرورا بسيدي مشرق لكن مصرفهم بني على أنقاض الاستحكام الأغلبي ومن هذا المكان أبحرت سفنهم محملة بالزيت والمرجان والحبوب.
كان هدفهم الهيمنة على الشريط الساحلي من تونس إلى الجزائر والتحكم في تجارة المنتجات الزراعية والمرجان في حوض المتوسط فسعوا إلى مفاوضة عائلة لوملّيني الجنويّة على شراء حصن وجزيرة طبرقة لكن المؤامرة فشلت حين علم بها علي باشا عبر أحد الجواسيس فأمر نجله ، يونس باسترجاع طبرقة من الايطاليين وهو ما تم في (17 جوان1741م)، .لاحقا وتحديدا في 16 أوت1741 جاء الدور على الفرنسيين ليطردوا شر طردة من سيدي مشرق ويهدّم مصرفهم الذي كانت به مخازن للحبوب والزيت وميناء وسفن كبيرة ومنشآت إدارية وسكنية فلم تتبق منه إلا الأطلال التي نراها حاليا.
من سجنان وعلى طول 30 كلم تبدأ الرحلة نحو سيدي مشرق ، ونصف الطريق موجود في الجبل المحاط بغابة كثيفة هي من أجمل غابات تونس وأكثرها بهاء وتنوعا بيولوجيا وهذا التنوع هو ما عجل بإدراج المنطقة الممتدة من كاب سيراط إلى تخوم سد سيدي البراق ضمن المحميات الطبيعية للبلاد التونسية وإنشاء الحديقة الوطنية بجبل شيطانة وكاب نيقرو. تناهز مساحة الحديقة 11422 هكتارا وهي تضم جزءا بريا يغطي 10122 هكتارا وفي هذا الجزء شريط غابي بعرض 72 كيلومترا ينطلق من الحديقة الوطنية بجبل شيطانة إلى كاب نيقرو أما المنطقة البحرية فتمتد من سيدي مشرق شرقا إلى كاب نيقرو غربا على مساحة 1300 هكتارا.
يحفل جبل شيطانة بأشجار الزان والبلوط والنباتات العطرية والطبية ومنها الريحان والخلنج والقضوم والعرعار والزعتر والاكليل وتختص منطقة سيدي مشرق ببعض الأنواع المهددة بالانقراض ومنها النيلوفر الأبيض الذي لا يزهر الا في بحيرة المياه العذبة بماجن شيطان .الثروة الحيوانية في هذه السلاسل الجبلية تضم أيضا بعض الثدييات مثل الأيل البربري والضبع والخنزير والثعلب والزيردة وعديد الأصناف الأخرى من الثدييات والطيور والزواحف.
نزولا من أعلى الجبل باتجاه القرية تتغير التضاريس ويظهر الأزرق الممتزج بألوان الكثبان الرملية وأشجار الصنوبر والأكاسيا التي زرعت منذ عشرات السنين بمحاذاة الساحل لحماية الشاطئ من الانجراف. جمالية المشهد تنسي المتجول في هذه الربوع رداءة الطريق وتحثه على الوصول في أقرب وقت إلى الشاطئ الرملي الممتد لمئات الأمتار وهو من دون شك أحد أجمل شواطئ تونس.
ظلت سيدي مشرق منذ آلاف السنين قرية بحرية بامتياز نشاطها الأساسي صيد الأسماك والانتاج الفلاحي وهذه السمة لم تتغير خلال تمركز الدولة الأغلبية أو في العصر الوسيط حيث بنيت تحصينات عديدة ومراسي صغيرة على السواحل التونسية وبالخصوص على السواحل الشمالية وكثير منها مازال قائما من بنزرت إلى حدود طبرقة.
في سيدي مشرق ميناء للصيد الساحلي أنشأ في 1997 وهو في حالة سيئة وكثيرا ما شكل مصدر تذمر لبحارته وهم بالعشرات حيث تتضرر مراكبهم وتجهيزاتهم أحيانا نتيجة لتقادم التجهيزات.
رغم صعوبة ظروف العمل فإن بحارة سيدي مشرق يعودون من سواحل هذه المنطقة التي تمتد إلى تخوم جزيرة جالطة بما يقرب من 80 طن من الأسماك بأنواعها كالمناني والقاروص والتنوط والبلاميط والقراض والسار والجغالي والقرفال والورقة والتريلية واللمبوكة والشلبة والسوبيا والقرنيط إضافة إلى السمك الأزرق المتمثل في الماكرو والسردين.