أسواق تونس ...سوق القماش

 

 

كنوزنا-ياسين بن سعد

غارقا في الألوان ، متألقا في كل زمان هو سوق القماش ، وكيف لا يكون وهو أحد أقدم الأسواق وأجملها في مدينة تونس القديمة إذ تعود جذوره إلى العهد الأغلبي كما يخبرنا بذلك أبو العرب في طبقات علماء إفريقية ، فعلى مقربة من جامع الزيتونة وخلال القرن الثالث للهجرة كان ثمة نساجون وحائكون بارعون ، وأما نسبة السوق للسلطان الحفصي أبي عمرو عثمان فلا شك أنها تعود إلى كون هذا السلطان هو من أمر بالأشغال التي أعطت للسوق شكله الحالي.

لا ريب أيضا أن أسواق مدينة تونس في أغلبها وكما نعرفها الآن هي من مآثر أبي زكرياء الأول أي أنها ترجع إلى القرن الثالث عشر ، ففي عهده أنشأ سوق العطّارين، وسوق القماش، وسوق الرّبع، وسوق القشّاشين، وسوق الصّاغة، وسوق الغزل، وسوق الجبّة، وسوق الكتبيّين، وسوق الفكّة، وسوق الشمّاعين، وسوق البلاّغين وهي الحلقة الأولى من الأسواق المحيطة بالجامع الأعظم ويمكن لنا تسميتها بالأسواق النظيفة فما عداها من الأسواق التي كانت على غير هذه الصفة أو هي تحدث ضجيجا وجلبة كانت في أماكن أبعد أو خارج الربضين تماما أي ربض باب سويقة وربض باب الجزيرة.

لاحقا سوف تظهر في المدينة العتيقة العديد من الورشات الحرفية بعضها اختص في نسج الأقمشة الحريريّة عرفت بفنادق الحرير وقد ازدهرت صناعة الحرير والأقمشة في مدينة تونس حتى أضحت من أهم الصناعات الرائجة داخل البلاد وخارجها واستمر ذلك إلى الفترة العثمانية.

كانت تجارة القماش ركيزة أساسية في اقتصاد البلاد إلى جانب الحبوب والزيت والشمع والعطور وهي لم تكن خاصة بالسوق المحلية فجانب مما يستورد يعاد تصديره وأما سوق القماش فكان أحد أهم الأسواق الحفصية وأكثرها ارتباطا بالتجارة الخارجية كما يقول روبار برنشفيك فتونس"كانت تستورد من جميع البلدان شتى أنواع الأقمشة المصنوعة من الكتان والقنب والصوف والحرير والخشن أو الرقيق كما كان يرد عليها عن طريق مرسيليا قماش الإيتامين والمنسوجات الصوفية من مدينة أراس والأقمشة الصوفية أيضا من مدينة شالون والمنسوجات الحريرية من منطقة السيفان وكان الجنويّون والبنادقة يجلبون نسيج الكتان من بورغونيا في حين كان الجنويّون يحملون إليها الأقمشة الصوفية من فالندريا كما كانت الأقمشة الصوفية ترد أيضا من أنقلترا والروسيون ، وترد من اللنجدوك وفلورنس المنسوجات القطنية المشبوكة والشملات.كما تشتمل قائمة الأقمشة والمنسوجات على بعض الأقمشة الثمينة التي لا شك أن جزءا منها كان يصنع في المشرق مثل الأقمشة الحريرية والمخمل الدمشقي والساتان والتفتة ويبدو أن البندقية هي التي كانت تتعاطى تجارة تلك الأقمشة الرفيعة".

ظل سوق القماش إذن ملتقى المنتجات الحرفية الأجنبية والمحلية إلى غاية القرن 19 حتى أن أغلب سكان مدينة تونس كما يقول ليون الإفريقي كانوا مختصين في صناعة النسيج والمنتوج جيد ويباع في العديد من البلدان أما الرحالة لالمون Lallemand  فيشير من ناحيته إلى أن الحرايرية  في 1890 بلغ عددهم 1200 وكان تحت إمرتهم نحو 6000 آلاف عامل.كان سوق القماش يعرض القماش التونسي بجميع أصنافه والملابس النسائية التقليدية من فوطة وحايك وتقريطة إضافة الى العمامات والأحزمة والسفساري والزّرابي وبعض هذه المنتوجات أصبح بالذهب والفضة وموجها إلى الفئات الغنية من التجار والعسكريين والتي ستظهر بعد قدوم الأتراك والموريسكيين انطلاقا من القرن السادس عشر.

بالإضافة إلى دوره التجاري يزخر سوق القماش ببعض المعالم التاريخية المهمة من أبرزها المدرسة المرادية وهي من مآثر مراد باي الثاني وقد أنشأها سنة 1673 م "مكان فندق كان يسكنه عساكر الانكشارية ثاروا عليه ذات يوم فعاجلهم بالقتل فهدم الفندق وبنى مكانه هذه المدرسة ...وبعضهم يسميها مدرسة التوبة لأنها كانت مسكنا للأجناد قبل بنائها ويقع فيه الفجور. ".

صارت المدرسة معلما أثريا مرتبا في 19 أكتوبر 1992 وكانت مخصصة للطلبة الزيتونيين من المذهب المالكي وكان لها العديد من الأوقاف وهي قد خضعت الى الترميم سنة 1981 كما تعد من أكبر المدارس الدينية بتونس (460 م.م) .

في سوق القماش أيضا ضريح النّحوي بن عصفور الاشبيلي الذي توفّي بعد إغراقه في جابية جنان أبي فهر من قبل حاشية السلطان محمد المستنصر وكان بن عصفور قد أنشأ خلال هذه الفترة (القرن 13م) المدرسة المعروفة بالعصفورية وهي كائنة بزنقة العطارين.

المدخل الشمالي للسوق يعلوه كذلك معلم آخر هو المقصورة التي بناها السلطان أبو فارس سنة 1419 م والمطلة على الجامع الأعظم وكان يأوي إليها في رمضان وهذه المقصورة كما يذكر الزركشي هي في الأصل مكتبة ضخمة ضمت كتبا في العلوم الشرعية واللغة العربية والطب والحساب والتاريخ وغيرها ويفهم من هذا أن السوق لم يكن مسقوفا حتى تلك الفترة وأن سقفه قد بني في تلك الفترة.

ونختم بالقول أنه لا يمكن الحديث عن سوق القماش دون الإشارة إلى تكامله مع الأسواق المحيطة به أي سوق الجرابة وسوق النساء وسوق الربع وسوق اللفة وسوق الجبة أوالصوف ما يجعل لهذا المكان أهمية خاصة فهو جزء أصيل من هوية تونس التاريخية .


 

 

 



أحدث أقدم

نموذج الاتصال