كنوزنا-ياسين بن سعد
من درب السكاجين الطويل بدكاكينه وحرفييه ومعالمه لم تحفظ ذاكرة المدينة إلا قصة البطل الخرافي الماكث في قبره الأخضر منذ مئات السنين وكأن هذا القبر استحضار للزمن الغابر، زمن الرجولة والفحولة والشهامة والاقدام وأما الحقيقة فسردية مختلفة تماما لا علاقة لها بالبطولات ونياشين الشرف.
أضحى القبر أيقونة السوق يتوقف أمامه العابرون لالتقاط الصور التذكارية ويتنافس المغرمون بالتراث في تفصيل حكايته وأهميته التاريخية وتعدّ حوله المؤسسات الإعلامية المحلية والأجنبية تقارير مكتوبة ومرئية وفي زحام الحكاية ضاع تاريخ المكان وغادر الصناع البارعون ولم يتبق من السكاجين إلا الإسم أو شذرات مما كتبه مؤرخونا الأوائل.
ظلت مهنة الشكازين أيضا كأختها مهنة السراجين ، مهمشة على مر العصور على الرغم من أن وجودها يرجع إلى النواة الأولى للفتح الإسلامي فهي قد كانت قائمة بأسواق القيروان منذ العهد الأموي وحتى خلال القرن الحادي عشر قبل أن تتوسع إلى أسواق سوسة وصفاقس والحاضرة.
وأما عن سوق السكاجين بتونس فيحدد محمد الباجي بن مامي تاريخ إنشائه فيقول "وأول من ذكر سوق السكاجين هو أبو عبد الله الرصّاع صاحب الفهرست وكان ذلك خلال القرن التاسع للهجرة ، الخامس عشر الميلادي وهو ما يدل على وجود هذه السوق قبل هذه الفترة الزمنية ...واختص الحرفيون بهذه السوق في صنع كل شيء مستخرج من الجلد وقد طور هذه السوق الباي حسين بن علي في بداية القرن 18 ".
هكذا نفهم أن سوق السكاجين هو من أقدم الأسواق على الإطلاق وهو سيزدهر في العهد الحفصي وسيتكامل خلال الحقبة الحسينية مع الجزء الآخر المتصل بهذه السوق أي سوق السراجين الذي جمع أمهر الحرفيين وكان مقصد النخب الحاكمة والعائلات المخزنية أو العائلات المرتبطة بها من تجار ورجال دين وعسكريين فالسرج كان دليلا على الوجاهة الاجتماعية.
يوصّف الباجي بن مامي مهنة السكاجين مؤكدا أن هذا المصطلح حرّف من الشكّازين ، ومعنى شكز في اللغة العربية هو مثلما ورد في لسان العرب الباس هيكل من الخشب ثوبا من الجلد ...والشّكازة تعتبر فرعا من السراجين مضيفا ""لدينا وصف أحد الرحالة الفرنسيين (دينون) وهو مؤسس الصليب الأحمر الذي زار تونس خلال القرن 19 وقد أبدى إعجابه بصنع السروج في تونس خاصة عند تجميع الذهب والفضة والحرير على القماش أو الجلد لصنع سرج بديع ...ويذكر نفس الرحالة أن عدد هؤلاء المختصين في صنع السروج بلغ سنة 1858 مائة وخمسين سراجا اضافة الى أكثر من 500 صانع ينتمون الى عائلات ميسورة...ثم تقلص العدد الى 32 سنة 1900 ونزل عدد العمال الى 70 اضافة الى 90 متربص وتراجع عدد السراجين الى 7 فقط سنة 1972 ولم يبق سنة 1998 الا أربعة يعرفون مبادئ هذه الصنعة".
لنعد الآن إلى حكاية قبر السكاجين للقول أن المخيلة الشعبية ظلت تتداول جيلا وراء جيل ملحمة بطولية لذلك "الجندي المجهول"دفين القبر ...تتحدث الحكاية عن تحرش جنديّين إسبانيين في ثلاثينات القرن السادس عشر أي خلال فترة الإستعمار الإسباني بفتاة تونسية كانت عائدة من أحد الحمامات الشعبية رفقة والدتها فتمكنت من الفتك بأحدهما قبل أن يقتلها الثاني ويجمع صراخ والدتها سكان الحي وأشقائها السبعة فيجهزوا على الجندي الثاني.لاحقا سيطارد الإسبان الأشقاء فيقتلونهم تباعا في أماكن متفرقة من المدينة ولا يعرف لأحدهم قبر الا هذا المدفون في السكاجين...تذكر الحكاية كذلك أن هذا الشاب قاتل الجنود الاسبان بشراسة واستبسال في ذلك المكان وظل يقاومهم حتى بعدما قطعوا رأسه.
شحيحة هي المصادر التي تتحدث عن قبر السكاجين على الرغم من أن هذا القبر صار أحد المعالم السياحية في المدينة العتيقة ويذكر محمد ابن الخوجة أن القبر يعود لأحد أبناء العالم الشيخ أبي يحيى الرصاع.
وقد فصّل ابن أبي الضياف في الإتحاف نسب الجد الأول لهذه العائلة فقال "الشيخ العلامة...الجامع بين القضاء والفتيا أبو عبد الله سيدي محمد بن قاسم الأنصاري نسبا التلمساني مولدا التونسي تربية ومنزلا وقراءة يعرف بالرصاع لأن جده الرابع من والده كان نجارا يرصّع المنابر ويزين السقوف وهو الذي صنع منبر جامع الشيخ أبي مدين الغوث رضي الله عنه وأخذ أجره عن ذلك محل قبر حذو الشيخ فدفن به ...ارتحل هذا الشيخ لتونس في عام 831 هـ/ 1427 م ومعه والدته وأما والده فسبقه بعامين فربى فيها واستوطنها وترك بها عقبه إلى الآن ..."أما أبو يحيى الرصاع فهو "شيخ الإسلام علم الأعلام الفقيه المدرس المفسر المحقق ابن المرحوم الوزير المعظم قاسم الرصاع ...ولي الإمامة والخطابة بالجامع سنة 1017 هـ/ 1608 م في دولة المرحوم عثمان داي واستمر عليهما سبعة عشرة سنة وولي الفتيا فسلم فيها لأجل الجامع...وكان والده وزيرا للأمير حميدة الحفصي".
ويؤكد الباحث الجزائري حمزة بوقادوم في دراسته عن عائلة الرصّاع التلمسانية بالحاضرة التونسية أن حضور هذه العائلة في المشهدين الديني والسياسي كان راسخا "فلما مات الرصاع الأول وزير الأمير حميدة الحفصي ترك أبناء بلغوا سن التعليم فدخلوا جامع الزيتونة وتعلموا حتى صاروا ...كلهم علماء مشاهير قضاة ومفات وعدول".
في ما عدا تلك الإشارة التي أوردها ابن الخوجة حول صاحب هذا القبر الذي ظل في مكانه لقرون لم نظفر بسند تاريخي متين حول هذا المعلم لكن فريد الزمالي المحافظ المستشار بالمعهد الوطني للتراث ساق لنا رواية جديدة في مقاله الصادر بالشارع المغاربي في أفريل 2023 حيث ذكر أن القبر في الأصل يعود إلى شخصية أخرى من غير آل الرصاع هو أحمد ابن نفيس وقد استند في هذه الرواية إلى مخطوط قديم ألفه أبو الطاهر الفارسي حفيد الشيخ محرز ابن خلف.
يورد الزمال ما عثر عليه في النص المقتضب المتعلق بمناقب ابن نفيس وفيه "من المشائخ الصلحاء المشهورين والأولياء المذكورين الشيخ الصالح المقرئ أبو العباس أحمد بن عبد العزيز بن نفيس الغساني التونسي رحمه الله تعالى ونفع به وهو مدفون بداخل تونس بباب المنارة من ناحية الجبلي بجهة القصبة السلطانية وليس لتلك الناحية غيره ولبقاء قبره هناك سبب وهو ما حدثني به بعض المشائخ بتونس قال لي :تعلم سبب بقاء هذا القبر هنا؟ قلت أخبرني ، قال لي الفقيه العالم أبو الحسين ابن أحمد القمودي لما فتح الموحدون إفريقية ودخلوا تونس واتخذوها دار ملك جاء الوالي فبنى القصبة فجاء أمام الباب قبور كثيرة كانت هنا فأمر بحفرها ونقلها فمن كان له أهل نقلوه ومن لا أهل له ولم يعلم له قرابة نقله الخدام وتحرزوا من نقل هذا الشيخ فأعلموا الأمير بمكانته وقدره ورفعته فقال اقلعوه كغيره فامتنعوا منه فقام بعض الخدام المجترئين قال أوخفتم من أمره...ها أنا أحفر لكم وأخذ فأسا وجعل يضرب القبر فطار فأسه من الأرض ورجع على ساقه فكسرها وانجرح جرحا عظيما وأصاب الوالي الذي أمر بقلعه وجع فبقي يتضجر به إلى العصر فما زال عنه إلا بخروج روحه وتولى وال آخر.وسالت أدمية هذا الحفار ودهش أصحابه وبقوا وقوفا ولم يتجرأ أحد منهم أن يأخذ ذلك الفأس قال: ومات الرجل من تلك الضربة بعدما بقي مبطولا لا يزحف فأعلموا الوالي الثاني بذلك فقال هذا ولي الله تعالى فأديروا عليه حائطا يصونه من الدواب واتركوه مكانه.فهذا سبب بقائه هناك ...وعلى رأس القبر حجر من رخام مكتوب فيه تاريخ وفاته رحمه الله يوم الجمعة لإحدى وعشرين خلت من شهر جمادى الأولى سنة تسع وسبعين وأربعمائة 479 هـ/ 1086 م".
يؤكد الزمال أن كتاب الحقيقة التاريخية للتصوف الإسلامي لصاحبه لمحمد البهلي النيال فيه إشارة إلى شاهدة القبر وهي تثبت أنه لابن نفيس كما أن مكتبة المعهد الوطني للتراث كانت تتحوز على صورة لهذا الحجر لكنها ضاعت وفقدت من الأرشيف وبالتالي فهو يجزم بأن القبر لابن نفيس ولا علاقة له بالشيخ الرصاع ونحن لا نشكك في رواية المستشار الذي اجتهد في البحث والتنقيب وغفل عن نشر الدليل الذي عثر عليه وهو الوثيقة المناقبية لابن نفيس كما أوردها حفيد سلطان المدينة محرز بن خلف عسى أن يتلافى ذلك في منشور لاحق.
وإلى أن يحصل ذلك فإننا نختم بالقول أن قبر السكاجين الذي صمد طيلة قرون وقد زالت من حوله كل القبور التي كانت في مقبرة السلسلة الواقعة بين باب المنارة وباب الجديد ، هذا القبر تعرض إطاره الخشبي فى إحدى ليالي مارس من سنة 2013 الى التهشيم من قبل مجهولين لكن أهالي المنطقة من التجار والمتساكنين أعادوا تأهيله وكأن أسطورة البطل المجهول صارت بالنسبة لهم حقيقة تاريخية وجزءا من ذاكرة المدينة وهوية سوق السكاجين.