كنوزنا – ياسين بن سعد
مدينة بحريّة
الجذور والروح هي قليبية وعلى إيقاع بحرها
تدقّ قلوب ساكنيها المتعلقين بها أيّما تعلق وإن أبعدت بعضهم المسافات فما بالك
بمن يدخلها زائرا ليتعرف على ما فيها من حسن وسكينة وبهاء ويرى خيراتها بأم عينه في الميناء الذي يتوسط ضفافها. في ميناء قليبية
وهو الأول من حيث الإنتاج جهويا والثالث وطنيا يعمل قرابة الثلاثة آلاف بحار على
مئات المراكب الكبيرة والصغيرة وهؤلاء يعودون يوميا بمختلف أنواع السمك الأبيض
والسمك الأزرق والتنّيات واللافقاريات والقشريات لكن صيد الأسماك في قليبية هواية
تجري في دم القليبيّة وليس فقط مهنة تمارس على المراكب ولهذا فإن المتجول على ساحل
المدينة سوف يجد في كل مكان من نصب قصبته وجلس ينتظر رزقه.
على كرنيشها أو على ضفاف شواطئها ليس أفضل من هذه الأوقات التي يغيب فيها صخب المصطافين، للتمتع بسحر قليبية والتعرف على مخزونها التاريخي والحضاري ، وعلى ناسها الطيبين.
حول
"البرج" تشكّلت ملامح قليبية في كل الحقب التاريخية حتى أنه لا يمكن
تخيل المدينة من دون درعها الشامخ المطل على مضيق صقلية والحافل بآثار الحضارات
القديمة التي تمركزت في المكان.
لا يمكن أيضا زيارة المدينة والتخلف عن رؤية البرج الذي تفطن البحارة والقادة الكبار منذ أزيد من ألفي سنة إلى أهميته الاستراتيجية ولعل الفنيقيين الأوائل كانوا الأدرى بقيمة تلك الصخرة المرتفعة 77 مترا فوق مستوى البحر وهم الذين وضعوا أسس هذه المنشأة العسكرية خلال القرن الخامس قبل الميلاد ، قبل أن تتعاقب عليها الهجمات الخارجية وتستقر بها الحضارات فبعد أغاتوكل طاغية سرقوسة احتل المدينة والحصن خلال الحرب البونيّة الرومانيّة الأولى ، القنصل الروماني ريغولوس الذي لم يلبث أن انهزم على أبواب قرطاج فغادرت فلول جيشه إلى روما من حصن قليبية الذي احتمت به.
خلال الحرب البونية الثانية صمد الحصن وعجزت السفن الرومانية عن إنزال جنودها على مقربة منه ، وخلال الحرب البونية الثالثة أيضا أبلت هذه القلعة العسكرية البلاء الحسن وصمدت لمدة عامين ولم تسقط إلا بسقوط قرطاج.
رغم الازدهار الكبير الذي عرفته قليبية خلال الحقبة الرومانية القيصرية خصوصا حيث أصبحت من أهم مدن الوطن القبلي فإن الحصن لم يشهد إضافات كبيرة ، ويذهب غابريال كامبس في دراسته المشتركة مع محمد حسين فنطر حول (aspis) إلى أن البرج هو في الواقع الحصن البيزنطي مع بعض التغييرات البسيطة لكن ناجي جلول يشير من ناحيته إلى أن البيزنطيين لم يبنوا سوى قلعة صغيرة مازالت أطلالها إلى الآن داخل البرج مؤكدا أن البرج الحالي "يعود إحداثه إلى فترة يحيى بن تميم الصنهاجي (550 هـ / 1112 م) وقد حافظ منذ هذا العهد على مظهره العام رغم الإصلاحات العديدة التي عرفها في العهد العثماني".
يمسح البرج حوالي الهكتار والنصف وبداخله أطلال ومعالم من فترات تاريخية مختلفة منها القلعة البيزنطية ومسجد وحمامات وخزان للمياه فيما ظل المبنى بكليته متماسكا وهو عبارة عن سلسلة من التحصينات العسكرية المتكاملة تضم غرفا ودروبا للعسس ونقاطا للمراقبة وأخرى لاطلاق نيران المدافع . من البرج أيضا جاء قسم من سكان قليبية كما ذكرنا في مقالنا السابق ، فجدودهم هم الانكشاريون الذين حرسوا المدينة إلى أن سقطت البلاد تحت حكم المستعمرين الفرنسيين الذين أضافوا في المكان المنارة البحرية (1888 م).
على بعد عشرات الأمتار من هذا المعلم يمكن للزوار التعريج على "مقهى البرج" المقام في مكان ضريح سيدي علي المقدم ، لتناول مشروب ساخن أو بارد في باحة واسعة وعالية مشرفة على منظر ساحر وإن كانت الأسعار في هذه المقهى مشطة والجدل حول توظيف هذه المعالم لأغراض تجارية أو ثقافية متواصلا بقي أنه لا يجب الخلط بين هذه الأضرحة التي يعود بعضها لضباط أتراك وبين المرابطين الأوائل العائدين للعهد الحفصي والمذكورين في كتب التاريخ وهؤلاء كانوا يجتمعون قرب ما يسمى "مجمع الصلاح" أو صخرة حمام كما يقول الأهالي وهذه الصخرة كان يأتي إليها الحمام الزاجل بالبريد أو يستريح بها.
أسفل البرج تحول ضريح سيدي مصطفى بدوره إلى مقهى سياحي وأضحى جزءا من المقاهي والمطاعم المنتشرة على طول سواحل قليبية التي تمتد على طول 10 كيلومترات تقريبا من تخوم حمام الأغزاز شمالا إلى منزل تميم جنوبا وتتألف من مجموعة من الشطوط الرائعة بعضها صخري لكن أغلبها يتميز برمال ذهبية ومياه شديدة الصفاء وهي شط عين قرنز وشط المامونية وشط المرسى وشط الفتحة وشط باريس الصغيرة (petit paris) وشاطئ المنصورة وشط البالج وصولا إلى بيت العسة في شط سيدي منصور فيما بدأت مشكلة الانجراف تطل برأسها على بعض الضفاف الجنوبية بسبب البناء العشوائي لكن شواطئ قليبية تظل رغم كل الإشكاليات من أجمل وأنظف الشواطئ في حوض المتوسط.
كانت قليبية مؤهلة أيضا بفضل سبختها لأن تحتوي على واحدة من أفضل المناطق الرطبة في تونس لو لم يتعرض هذا الامتداد الطبيعي إلى اعتداءات متواصلة نتيجة سكب مياه الصرف الصحي فتحول حلم تثمين السبخة وربطها بالبحر إلى كابوس حقيقي يعيشه أهالي المنطقة.
