قليبية التاريخ والعائلات (1)


كنوزنا – ياسين بن سعد

على مسافة كيلومترين تقريبا من الشاطئ ولدت قليبية الجديدة (قصر قليبية) على أنقاض أسبيس البونيّة ثم كليبيا الرومانيّة لكن الشواهد على الماضي التليد مازالت ترى بالعين المجردة ومن يأتي إلى المدينة لا بد من أن ينتبه إليها بقدر انتباهه إلى البرج الأثري الذي يجتذب غالبية الزوار.

ظهر إسم أسبيس في كتب الرحالة لأول مرة من خلال ما دوّنه المؤرخ والجغرافي "سترابون" عن حملة أغاتوكل القادم من سرقوسة في 310 قبل الميلاد لكن تأسيس أسبيس لا يعود لهذا الطاغية اليوناني الذي أنشأ فيها حصنا ودارا للصناعة فالمدينة قديمة وترجع جذورها إلى القرن الثامن أو السابع قبل الميلاد وهي بالأساس مدينة (لوبيّة / بونيّة) تدل على ذلك الآثار التي عثر عليها أسفل الحصن والمبينة في دراسة غابريال كامبس ومحمد حسين فنطر (aspis/clipea- kelibia) فقد عثر أسفل البرج على بقايا سور من القرن الخامس قبل الميلاد وعلى مقبرة بونية من القرن الرابع (ق.م) وعلى أوان فخارية وخزف وتمائم وأشياء أخرى.

كان لأسبيس ، أيضا ميناء تجاري كبير يربطها بجزيرة بانتلاريا وبعديد المرافئ المتوسطية وكان أسفل الهضبة يعج بالفيلات الفخمة وكانت الضواحي كما ذكر المؤرخ بوليب حافلة بالبساتين الغناء وأما إسم المدينة أي أسبيس فلم يكن كما يرى محمد حسين فنطر إلا ترجمة يونانية لكلمة "درع" المستوحاة من المعتقدات البونية القديمة (maitres des  boucliers) أو تافيتيس (taphitis) الأمازيغية لكن أيا كان الاسم الأول لهذه المدينة   فإن موقعها الاستراتيجي قد أسال لعاب الامبراطوريات القديمة فتوالت الحملات العسكرية التي قاومتها أسبيس بشجاعة وإن رزحت لفترة تحت حكم القنصل الروماني ريغولوس قبل أن يستعيدها القرطاجيون ثم تسقط نهائيا بيد الرومان بسقوط قرطاج في (146 ق.م).

خلال الحقبة الرومانية تحولت أسبيس إلى مستعمرة وأطلق عليها إسمها اللاتيني الذي يحيل إلى تسميتها الحالية (clipea) لكن المؤرخ الروماني بلين الأكبر pline   l'ancien  يؤكد أنها أصبحت مدينة حرة وهذه المكانة كما يشير إلى ذلك الطاهر غالية في دراسته عن الحفريات التي عرفتها منطقة الحصن هي التي ستؤهل قليبية لكي تصبح منذ القرن الأول ميلادي قطبا اقتصاديا له معاملات تجارية نشطة مع موانئ روما ومدن المتوسط.

لم تفقد قليبية القديمة (أسبيس) بريقها خلال العصر الإسلامي كما يقول ناجي جلول فهي قد "أصبحت من أهم المدن التونسية في العهد الأغلبي وتدعم دورها العسكري في العهد الفاطمي لما أحدث بها بنو عبيد دارا للصناعة ولكنها بدأت في التقهقر بداية من القرن الثاني عشر ميلادي بعد إحداث المدينة الحالية لتنقرض في بداية العهد الحفصي (القرن 13)".

      حول البرج تتمركز أغلب المواقع الأثرية لكن الموقع الأهم هو الفوروم (الساحة العامة) الذي في حديقة مدرسة الصيد البحري وهو النقطة المركزية في المدينة التاريخية فحوله عديد المعالم الرومانية بعضها اكتشف والبعض الآخر مازال مدفونا تحت التراب أو بنيت فوقه منازل دون أن يعرف كيف رخص لبنائها.

ربما كان هذا الجزء هو الوحيد المحمي من مدينة (أسبيس / كليبيا) التاريخية فعديد المواقع القريبة مهملة تماما ومتروكة للصوص الآثار رغم أهميتها البالغة وما تقدمه من شواهد على الازدهار الكبير الذي عرفته المدينة إلى أواخر العصور القديمة ، والذي تترجمه المنازل والمخازن ولوحات الفسيفساء العملاقة والأواني الفخارية الملونة وعديد اللقى الأخرى لا بل إن المنطقة كان بها قديما كنيسة مسيحية وكنيس يهودي يرجع إلى الفترة الوندالية (القرن الخامس).  

عريقة هي قليبية إذن وجميلة ، يصعب إن لم نقل يستحيل الوقوف على سحرها وجمالها في يوم واحد فقلب المدينة أو "باب بلد" يحتاج لوحده إلى برنامج زيارة خاص. في باب بلد يتمركز الجامع الكبير أيقونة المكان ، ودفتر الحنين فحوله نشأت الأحياء السكنية والمرافق العامة منذ العصر الوسيط لكن هذا المعلم الديني الشامخ الذي بني خلال العهد الحفصي لم  يكن في تلك الفترة سوى بناية صغيرة وبسيطة من الناحية الهندسية وقد ظلت كذلك حتى أواسط القرن الثامن عشر لما تم توسيعها من قبل الحاج عمر صمود ، وهذه العائلة القليبية المشهورة أي عائلة صمود ستساهم أيضا في عمليات التوسعة والترميم اللاحقة بداية من الأشغال التي قامت بها جمعية الأوقاف في أوائل القرن الماضي وصولا إلى الإضافات التي حدثت في بداية الثمانينات.

يرجع الفضل أيضا إلى الحاج عمر صمود في إنشاء الجامع الصغير في بداية القرن الثامن عشر وفي بناء أقدم حمام في قليبية وهو المعروف بحمام صمود القريب من بيت العائلة لكن قليبية ليست فقط عائلة صمود بل هي تركيبة جينيالوجيّة رائعة جمعت عديد العائلات العريقة التي تعود أصولها إلى أقطار وجنسيات مختلفة وربما كان التنوع السكاني والبشري هنا أكبر من كل ما هو موجود في بقية مدن الوطن القبلي.

تخبرنا الدراسات والمراجع التاريخية أن بضعة عائلات أغلبها من ليبيا هي التي شكلت النواة الأولى للمجتمع القليبي وبعضها ينحدر من قبيلة النّوايل التي جاءت من الجزيرة العربية مع بني هلال واستقرت في حيز جغرافي واسع يمتد من جنوب غرب الجزائر إلى الجنوب التونسي ومناطق رقدالين والجميل وطرابلس الليبية ، ومن هذه العائلات بن يوسف والفحيل وجلال وعطية وكريم وغيرها بقي أن الجذور الليبية لا تقتصر على هؤلاء فقط فبعض المناطق الامازيغية مثل تاجوراء وزوارة جاءت منها عائلات بن الشيخ (صمود أحد فروعها) والزواري وبوعفيف وهي في الأصل عربية / حجازية أو مرابطية كما توصف في ليبيا فيما أصول عائلات أخرى يمنية ومغربية وأمازيغية كالإمام وريدان والحجري.

في نهاية القرن السابع عشر ، تزايد عدد السكان وتوسعت أحياء المدينة التي استقبلت موجات جديدة من الأجانب وخصوصا من الجنود والضباط الانكشاريين الذين نزل أغلبهم من البرج ومن أبرز العائلات المنحدرة من هؤلاء العسكريين الذين تعود أصولهم إلى تركيا ودول البلقان وبعض جزر المتوسط ، يمكن أن نذكر عائلات عبد اللطيف والزمرلي وشاهرلي والدنقزلي والبلاجي والتركي والكردغلي والأرناؤوط والقربصلي وغيرها ، ولاحقا سوف تفد على المدينة عائلات أخرى من الجزائر وليبيا والمغرب ومن عدد من مناطق البلاد ما يفسر ثراء المخزون الحضاري وتنوع العادات والتقاليد في قليبية.

لا شك أن باب بلد يبقى مع البرج ، روح قليبية وهويتها العميقة ولا يمكن لمن يزور المدينة أن يكتفي بالبحر والفسحة ويتجاهل هذا الفضاء الحضري والحضاري الحافل بالروائح والألوان والأشكال الهندسية التي يمكن رؤيتها في الأنهج والأبواب والنوافذ والأقواس وإن كانت بعض بيوت المدينة القديمة الآن تتحول ملكيتها إلى أشخاص من جنسيات أجنبية.


أحدث أقدم

نموذج الاتصال