المدرسة السليمانية...ظلال الفتنة

 

حكاية علي باشا هي حكاية الحرب الأهلية التونسية التي دارت رحاها بينه وبين عمه حسين باي بن علي تركي ...حرب طاحنة أزهقت فيها الأرواح وانتهكت الأعراف وتضررت الرعية وبالطبع كان الصراع على الحكم هو وقود هذه الحرب التي انتهت بمقتل الباي حسين وتولي علي باشا حكم تونس دون أن يهنأ له بال فقد تمرد إبنه يونس وقتل إبنه سليمان مسموما وصدر الأمر ببناء السليمانية يوم دفنه.

لكن قبل أن نبدأ بقصة السليمانية وعلي باشا دعونا نبدأ بقصة الباي حسين فنقول أنه لما اعتلى عرش تونس في صائفة 1705 لم يكن قد رزق بأولاد فكان لزاما عليه تبنى ابن أخيه علي فاستعان به في خطة "باي الأمحال" جاعلا إياه وليا للعهد.

بعد فترة من الزمن جاءت مراكب القراصنة بسبيّة جنوية جميلة فاتنة إسمها ماريا لومليني سرعان ما أدخلت إلى حرملك الباي فأنجبت للباي سنة 1710 م إبنه البكر محمد الرشيد.

لاحقا تزوج الباي من ماريا التي أسلمت وصارت تسمى آمنة فأنجبت الإبن الثاني علي، وتبعه محمود ومصطفى ومع اشتداد عود الإبن الأكبر محمد قدمه الباي سنة 1724 للسفر ومنحه ولاية العهد ناكرا حق ابن أخيه في ولاية العهد.

كان حسين باي يبحث عن حيلة لتجنب غضب ابن أخيه علي فاستجلب له من السلطان العثماني منصب الباشا وأخرجه من قصر باردو وأسكنه في دار رمضان باي المعروفة حاليا بدار الجويني .

كان هذا القرار بمثابة إعلان خفي عن وضع علي باي تحت الإقامة الجبرية الأمر الذي لم يفته فخرج متخفيا من دار رمضان باي رفقة ابنه يونس وخاصته قاصدا جبل وسلات جبل التمرد والثورات.

لم يصمد علي باشا ومن معه طويلا في جبل وسلات نتيجة الحصار الخانق الذي فرضه عليه حسين باي فهرب الى الجزائر طامعا في دعم حكامها وبالفعل ففي ماي 1735 حصل من إبراهيم باشا على دعم عسكري مكنه من احتلال الكاف والانتصار على محلة عمه في معركة سمنجة قرب وادي مجردة يوم 4 أوت 1735 ثم السيطرة على تونس فهرب الباي حسين وأولاده الى القيروان التي حاصرها يونس 5 سنوات وتمكن من دخولها وقتل حسين باي فيما غادر إبناه محمد رشيد وعلي الى الجزائر.

في كتابه "المشرع الملكي" يقدم لنا محمد الصغير بن يوسف معلومات مثيرة عن الفترة التي سبقت مصرع الباي حسين فيذكر أن الباي كان بالقيروان فبعث إلى القاضي علي شعيب وطلب منه الذهاب إلى الولي سيدي عبد العالي والجلوس إليه دون كلام حتى يسمع منه وهو ما كان وقد كان كلام الشيخ عبد العالي مختصرا حيث قال له : "سلم لنا عليه أي الباي وقل له أن نصارة البحر أنا ضامن فيها وأما نصارة البر فخذ حذرك منها "... فهم الباي أن الشيخ يحذره من أمر جلل سيحدث ولا يعلم الغيب إلا الله فتكدر خاطره وزاد وفي هذا يضيف بن يوسف :" دخلت هذه الجملة في قلب الأمير حسين نكتة وآخر جمعة صلاها الباي حسين بجامع الحنفية لما فرغ الإمام من الخطبة وأراد أن ينزل وإذا بالغرداوي رجل من الأولياء أرباب الأحوال وقف على قدميه وقال ، أيها الناس عظّم الله أجركم في أميركم فبهتت الناس وكادت الجمعة أن تبطل".

هكذا أمكن لعلي باشا الإستفراد بحكم تونس لكن ولايته لم تتجاوز عقدين من الزمن ففي 31 أوت 1756 تمكن ابنا حسين باي بمساعدة جيش سخره داي الجزائر من دخول العاصمة والقبض على علي باشا يوم 2 سبتمبر ثم اعدامه خنقا في 22 سبتمبر ليسدل الستار على الفتنة الحسينية – الباشية.

يقدم محمد السنوسي في مسامرات الظريف وصفا دقيقا لهذا الباي فيقول" وقد كان الباشا مع علمه ولوعا بالكتب واكتسابها وبنى تربته التي بالقشاشين ومدرسة الباشية وقدم لمشيختها الشيخ محمد المحجوب الحنفي وبنى المدرسة التي نسبها لولده سليمان وقدم لمشيختها العالم الرباني الشيخ محمد الغرياني وبنى مدرسة بئر الأحجار وقدم لمشيختها الشيخ مسعود المغراوي الباجي وبنى مدرسة حوانيت عاشور وقدم لمشيختها الشيخ عبد الله السوسي وجميع هذه المدارس أوقف عليها أوقافا من الربع والعقار ...واعتنى بتحصين البلاد وجهز الثغور وأجرى السقايات العظيمة النفع وهدم حانات الحفصية ومنع بيع العنب لمن يعتصر الخمر وبنى المباني الضخمة بباردو".

كان علي باشا رغم غلظة شخصيته مستقيم السلوك كما يقول المؤرخون فلم يشرب في حياته قطرة خمر وقد كان مقتل إبنه سليمان الضربة التي قصمت ظهره وفي هذا يقول ابن الخوجة "أسسها – يعني المدرسة السليمانية - ...تذكارا لابنه سليمان باي الشهيد الذي قتله أخوه بسم دسّه له في في فنجان القهوة وكانت هذه الحادثة ضربة قاسية على والدهما علي باي استروح منها اقتراب زوال دولته وقد دام الحزن بتونس حولا كاملا ...وممن جاور بها من أهل الفضل والعلم الشيخ الطاهر من مسعود وكبير أهل الشورى الشيخ أحمد بن حسين القمار".

تقع المدرسة السليمانية في نهج السليمانية بجانب سوق القشاشين أو سوق الملابس القديمة وأيضا نهج الخمسة وسوق الكتبية كما انها لا تبعد سوى عشرات الأمتار عن جامع الزيتونة. كانت المدرسة عند انشائها مخصصة للتعليم الديني واللغات ثم أصبحت مبيتا للطلبة الزيتونيين وبعد الاستقلال تولى ترميمها المعهد الوطني للتراث في ما بين 1983 و 1985 .

تغيرت وظيفة السليمانية على مر الزمن لتصبح حاليا مقرا لعدد من الجمعيات الناشطة في مجالات مختلفة وصارت تعرف باسم دار الجمعيات السليمانية. لعل الباجي بن مامي وهو الخبير بالمعالم التاريخية وبمدارس مدينة تونس أفضل من يصف هذا المعلم فيقول " تتميّز المدرسة السليمانيّة ببوابة ضخمة ترتفع بأربعة درجات عن مستوى الزقاق. و ينفتح على الجانبين المتقابلين قوسان على شكل زاوية يسندهما عمود من الرخام في الوسط، ويرتكزان على أعمدة مستندة إلى الجدران، تعلوها تيجان كورنثية جديدة؛ ويتوج إفريز عريض من القرميد الأخضر البوابة بمجمل عناصرها.
أمّا الباب المصفّح بالنحاس فهو محوط بقوس على شكل حدوة حصان يتكون ظهره من فقرات بلونين ويفضي هذا الباب إلى دهليز مربّع ذو أبعاد صغيرة ، مزوّد بمقعد حجري على الجدار الأوسط، ومزيّن على نحوٍ رائع برِفد من لوحات من فخار القلالين.
الباحة المستطيلة (13 في 18 م) محاطة من الجهات الأربعة بأروقة تستند أقواسها النصف الدائريّة على أعمدة كلسيّة محنّاة تكلّلها تيجان مخرّمة، وعلى أعمدة مقترنة في الزوايا. تنفتح تحت ثلاثة من الأروقة الأربعة، ثمانية عشر غرفة خاصة بالطلاب، وهي غرف ذات أبعاد صغيرة ... في حين تمتد قاعة الصلاة على امتداد الرواق الشرقي.
يفضي باب رئيسيّ مؤطّر بالرخام على نحو مداميك متناوبة وبابان جانبيّان بإطارات مستقيمة إلى المصلى. ينتظم هذا الأخير على شكل مستطيل، ويتألّف من ثلاثة بلاطات وأربعة أساكيب ... وتحمل تيجاناً ذات زخارف حلزونيّة تعلوها قمريّات على شكل متوازيات سطوح طويلة و قد توضّع عليها غِماء على شكل قبّة ذات حواف حادّة. الجدران مكسوة بلوحات خزفيّة يعلوها إفريز خزفيّ أيضاً، زهري وجميل. إفريز ثانٍ كتابي كتب بخط نسخي عادي على خلفيّة بيضاء يذكر أسماء الله الحسنى التسعة وتسعون، بينما تأثث الأجزاء العليا عناصر زخرفيّة منحوتة على الجبس.
المحراب مسبوق بقبّة نصف كرويّة، رقبتها مثمّنة الأضلاع وتستند على حنيات ركنية. قوس البداية مزيّن بإطار عريض من الرخام الملوّن باللونين الأبيض والأسود. المشكاة مغطّاة بستّة لوحات من الرخام الأسود الذي يتناوب مع أخرى من الرخام البنّي الفاتح".

كنوزنا – ياسين بن سعد

 




أحدث أقدم

نموذج الاتصال