كنوزنا - ياسين بن سعد
كثيرا ما نسب رباط سوسة إلى زيادة الله الأغلبي لكن أعمال الترميم التي أجريت خلال خمسينات القرن الماضي بيّنت أن هذا الحصن الكبير قد أقيم على أنقاض معلم بيزنطي وقد ذهب المهندس الفرنسي ألكسندر ليزين في مقاله المتعلق بالاكتشافات التي حدثت في هذا المكان إلى أن النّواة الأولى لقصر الرباط بناها سنة (775 م) يزيد بن حاتم الذي ولاّه الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور شؤون افريقية وكان أبو جعفر كما يقول بن عذاري " عالما ببلاد إفريقية ولا يبعث إليها إلا خاصته وكان يزيد هذا حسن السيرة فقدم إفريقية وأصلحها ".
يؤكد ناجي جلول هذا المعطى التاريخي اذ هو يشير إلى أن " سوسة لما طرقتها جيوش عبد الله بن الزبير سنة (34 هـ / 654 م) لم تكن سوى مركز عسكري صغير تحول إلى قرية بعد انهيار السلطة البيزنطية وهذا المركز لن يعمّر إلا في منتصف القرن التاسع الميلادي لما توافد عليه المرابطون وأحدث به الأغالبة إحدى دور الصناعة (مصنع السفن) الهامة في الغرب الإسلامي ".
يضيف جلول أن "النواة الأوليّة لهذا المركز كانت قصر الرباط أو محرس الرباط الذي كان يعتكف به بعض الزهّاد ويأوي إليه سكان البوادي المجاورة إبّان غزوات الروم وهذا المحرس يعود إحداثه إلى فترة يزيد بن حاتم المهلبي".
لا شك أن الرباط سيعرف إضافات نوعيّة على يد زيادة الله الأول على الرغم من أن سيرة هذا الأمير الأغلبي كانت بعيدة عن سير القادة الكبار المشغولين بشؤون الحكم فهو كما يقول محمد الطالبي في مؤلفه الضخم (الدولة الأغلبية : التاريخ السياسي) "كانت تنشئته تبدو فعلا مهيّأة لحياة بهيجة فارغة في البلاط أكثر من أن تكون قد أعدته للقيام بمهام الحكم".وهو قد كان شاعرا و"ميّالا بوضوح الى الخمر والملذّات مثل جميع الشعراء العرب في عصره " ثم قذفت به الأقدار فجأة الى سدة الامارة بعد موت أخيه عبد الله ".
دوّنت كتب التاريخ ظروف موت عبد الله الأول المعروف بجماله فهو قد أثقل على الناس في الجباية فجاءه وفد جزريّ (من الوطن القبلي) بقيادة الوليّ حفص بن حميد لاقناعه برفع الضريبة " لكنه لم يستجب للتوسلات ولا للتوبيخات ، وفي طريقه إلى القيروان خائبا توجه الوفد إلى الله وصلّى في مصلّى روح وتضرّع الى الله بنجدة خلقه ... وتوفّي الأمير بعد 6 أيام من أثر دمّل تحت أذنه وقال من حضر غسله أنه لما كشف عنه ثيابه ظن أنه عبد أسود بعد جماله وذلك بسوء أفعاله".
ستمر السنوات الأولى من حكم زيادة الله هادئة لكنه الهدوء الذي يسبق العاصفة فهو كما يقول بن عذاري قد "أساء السيرة في الجند وسفك فيهم الدّماء واشتدّ عليهم في كل وجه ... ...وكان أكثر سفكه وسوء فعله إذا سكر ...وخالفت الجند عليه وغيرهم فكانت بينهم وبينه حروب ووقائع ".
رغم القلاقل التي شابت فترة حكم زيادة الله فانه نجح في تحصين مدينة سوسة وتوسيعها عمرانيا وكان الرباط عنصرا أساسيا في المنظومة الدفاعيّة التي أقامها الأمير فهو قد أعاد بناء هذا الحصن (206 هـ / 821 م) وجعله على طابقين كما بنى عشرات الغرف للمرابطين ومسجدا وكانت المنارة (البرج) الإضافة النوعية في هذا المعلم فقد اتخذت شكلا دائريا بديعا وارتفعت لتشرف على كامل مدينة سوسة وتصبح مرصدا يرشد الأسطول الأغلبي ويكشف سفن الغزاة.
وبالإضافة إلى منشآت دار الصناعة (مصنع السفن) وقصر الرباط الحالي وهي المنشآت التي تكون المرتكز الدفاعي فان سور المدينة قد أحدثه زيادة الله الأول لاحقا لتعزيز التحصينات العسكرية لهذه المدينة البحرية.
اتخذ رباط سوسة مخططا مربعا بطول 38 مترا وعرض مماثل وهو يحاكي من حيث هندسته القلاع العسكرية البيزنطية القديمة أو القصور العباسية لكن أيا كانت روحه الهندسية فهو سيظل عنوانا لمناعة هذا الثغر الإسلامي الذي كان في عهد زيادة الله منطلقا لفتح صقلية على يد أسد بن الفرات (212 هـ / 827 م) .
من أعلى منارة رباطها الأغلبي تتجلّى سوسة الأبيّة ، مهد الحضارات القديمة ...أرض المرابطين والفاتحين والثّغر الاسلامي العتيق وهكذا فالفترة الأغلبية ستظل إحدى المحطّات الحضاريّة الأساسيّة فالمدينة ستعرف خلالها نهضة كبيرة وستتحوّل الى مرفأ نشيط وقاعدة حربيّة وستتوسّع تحصيناتها الصّغيرة ومنها قصر الرباط الذي مازالت قبابه وأبراجه وأسواره تشهد لزيادة الله الأغلبي بعظمة الإنجاز لا بل إن ذلك لمرسوم على صخور هذا المعلم الذي جعل لحماية ظهور المسلمين فعليها يمكن للزّائر أن يقرأ : " بسم الله الرحمن الرحيم، بركة من الله، ممّا أمر به الأميرُ زيادة الله بن ابراهيم أطال الله بقاءه على يد مسرور مولاه في سنة ست ومئتين، اللّهم أنزلنا مُنزَلاً مُباركاً وأنت خيرُ المُنزِلين".
لعلّ هذا ما يفسر قول زيادة الله وقد اضطرب حكمه وأعمل السيف في الناس وهو الذي لم يكن ينتظر الإمارة مطلقا "ما أبالي ما قدمت عليه يوم القيامة وفي صحيفتي أربع حسنات : بنياني المسجد الجامع بالقيروان ، وبنياني قنطرة الربيع ، وبنياني حصن مدينة سوسة وتوليتي أحمد بن أبي محرز قضاء إفريقية".