مدرسة عنق الجمل :مدرسة فاطمة الحفصية ملتقى العلماء


اختلف المؤرخون في تحديد تاريخ انشاء هذه المدرسة فابن الخوجة ذكر أن ذلك كان سنة 1332 فيما تشير مصادر أخرى أن الأميرة فاطمة ابنة أبي زكريا وشقيقة السلطان المستنصر أمرت ببنائها في فترة أبعد لكن الثابت أنها سعت الى تعيين أفضل العلماء والأيمة على رأسها وهو ما أكده الزركشي في كتابه (تاريخ الدولتين الموحدية والحفصية) حيث قال "ولما بنت أخت السلطان أبي يحيى مدرسة عنق الجمل طلبت من أخيها أن يكون قاضي الجماعة ابن عبد السلام مدرسا بمدرستها فأسعفها فكان يقسم الجمعة بين المدرستين (الشماعية والعنقية) ثم ان الحرة عزلته من مدرستها ونسبته للتفريط وقدمت مدرسا الشيخ الفقيه أبا عبد الله محمد ابن سلامة".

عبر نهج السيدة عجولة المطل على نهج القصبة أو عبر نهج سيدي بن عروس يمكن الدخول الى نهج عنق الجمل ذلك المسار الضيق الذي لا يبعد الا عشرات الامتار عن جامع الزيتونة المعمور.

النهج اتخذ تسميته على الأرجح من شكله المتعرّج الذي يشبه عنق الجمل ورغم أنه ليس من الأنهج المشهورة الحافلة بالمعالم التاريخية والانجازات الحضارية التي تميز المدينة العتيقة فانه لا يخلو بدوره من هذا الارث الثمين فهو يضم المدرسة العنقية التي وهذه المدرسة كغيرها من المدارس الحفصية على غرار الشماعية والمنتصرية والعصفورية والتوفيقية انما كان الهدف من انشائها كما يشير الى ذلك استاذ التاريخ بوبة مجاني في دراسته حول (المدارس الحفصیة : نظامھا ومواردھا) " الابقاء على المذهب الموحدي وهو السند الذي قامت عليه الدولة والوقوف في وجه الخراب العمراني الذي عرفته بلاد المغرب جراء الاخطار الخارجية والحروب الداخلية " وفضلا عن ذلك فقد تولت هذه المدارس تخريج رجال الدين والقضاة الذين سيتولون تنظيم شؤون العامة.

لم يتوقف انشاء المدارس الدينية كما يتضح على السلاطين الحفصيين من أبي زكريا الى ابنه المستنصر وغيره من السلاطين المؤثرين كأبي فارس بل شمل أيضا أهل بيتهم فزوجة السلطان المؤسس أبي زكريا السلطانة عطف أمرت ببناء المدرسة التوفيقية بعد وفاة زوجها وكان المسؤول عليها إمام جامع الهواء الشيخ أبو عبد الله محمد الشريف وهكذا فالسياق الذي أنشأت فيه هذه المدارس كان سياقا سياسيا وتاريخيا بالأساس دون المساس بالعمق الديني لهذه المؤسسات وبرغبة منشئيها في تحصيل رضا الخالق ونيل الاجر والثواب ومن بعده تحصيل القبول من الرعية بشرعية الحاكم وسلطته التامة غير منقوصة.

قصة فاطمة الحفصية مؤسسة المدرسة العنقية قصة مثيرة حقا فهذه البنت التي حرص والدها أبو زكريا على تعليمها تعليما جيدا حفظت القرآن والحديث ونهلت من علوم الفقه واللغة وكانت محبة للعلم سائرة على نهج والدها ووالدتها وقد اضطرت ظروف الدولة الحفصية الوليدة الأب أبا زكريا الى التحالف  مع المرينيين الذين أنشؤوا دولتهم في المغرب الأقصى لدرء خطر الزيانيين وترجم هذا التحالف بزواج فاطمة من أبي الحسن ابن السلطان المريني والذي سيتولى بعد أبيه حكم هذه الدولة وتوسيع نفوذه حتى أنه لم يتردد في مهاجمة أصهاره الحفصيين والاستيلاء على تونس في 15 سبتمبر 1347 م لكن حملته العسكرية انكسرت تحت ضربات سيوف القبائل العربية على تخوم القيروان فخرج هاربا الى الجزائر عبر البحر.

قبل ذلك كان أبو الحسن المريني قد انهزم في معركة "طريفة" بالأندلس لما ذهب ليثأر لمقتل ولده أبو مالك على أيدي القشتاليين والأراغونيين والبرتغاليين.والحقيقة أن هذه المعركة هي التي شهدت رحيل تلك الأميرة الحفصية الجميلة في أواخر أكتوبر من سنة 1340 م ففي هذا التاريخ وبينما كان السلطان المريني الذي جهز جيشا عظيما رفقة السلطان يوسف حاكم غرناطة يستعد لملاقاة أعدائه على ضفاف نهر سالادو تسلل عدد كبير من الجنود المسيحيين ليلا الى حصن يقيم به أهله وحاشيته ومع بداية المعركة انطلقوا فذبحوا عددا من أولاد أبي الحسن وزوجته فاطمة وكل أفراد الحاشية ثم هاجموا جيش المسلمين من الخلف فدبت الفوضى وكانت هزيمة مدوية انسحب إثرها السلطان المريني هاربا بفلوله الى المغرب.

في هذه المعركة اذن استشهدت فاطمة الحفصية التي بحثت عن ثواب الآخرة فنالته بعيدا عن أهلها وناسها في تونس وعلى أرض جزء من العالم الاسلامي ظل جرحا تاريخيا نازفا هو الاندلس لكن فاطمة ستظل حاضرة بمدرستها العنقية وإن أصبحت هذه المدرسة غير ما أحبت.

ظلت ادارة المدرسة منوطة بعدد من أبرز العلماء في عهد السلاطين الحفصيين على غرار قاضي الجماعة أبو مهدي عيسى الغبريني الذي عيّن بعده السلطان أبو فارس الشيخ أبا عبد الله محمد القلشاني وقد خلفه ابنه أبو حفص عمر أما في العهد الحسيني فقد تولى الاشراف على المدرسة العنقية بالخصوص آل بيرم من الشيخ بيرم الأول وحتى الشيخ بيرم الرابع .

المدرسة تتلمذ فيها أيضا عدد من الطلاب الذين أصبحوا شيوخا بارزين ومنهم ابن عرفة والواصلي والقلجاني وابن عقاب والرصاع وقد تم يوم 19 أكتوبر 1992 تصنيفها كمعلم أثري.

مازالت المدرسة العنقية تختبئ خلف ذلك الباب الأزرق المؤطر بحجارة الكذال في نهج عنق الجمل لكن يبدو أن الباب الحالي ذو الحلقتين تم تركيبه حديثا شأنه شأن الفانوس الجانبي المخصص لاضاءة الشارع . لم نكن نعرف صراحة وضعية هذا الفضاء التاريخي وخفنا أن يكون حاله كحال عدة مواقع أخرى أي متداعيا ومنهارا لكننا اكتشفنا عند زيارته أنه لم يكن كذلك.

اختفى بالطبع جزء كبير من المميزات الأصلية للمدرسة لكن تصميمها لم يتغير بسقيفتها وفنائها المربع الذي تحيط به أربعة أروقة تستند الى أعمدة تعلوها 3 أقواس من كل ناحية . المدرسة تستغل حاليا كمحل سكني ولذلك لم نتمكن من الاطلاع الفضاءات الداخلية وهي في الواقع قد أسندت تعويضا لإحدى العائلات.

وهكذا فالمدرسة العنقية لم تعد بقوة الواقع وما طرأ عليها من تغييرات عبر الزمن ذلك التراث المرتب الذي يبلغ عمره قرابة الـ 700 سنة بل أصبحت بيتا مثل بقية البيوت أو "الوكايل" في المدينة العتيقة .

 

أحدث أقدم

نموذج الاتصال