الغضابنة بحر وتاريخ وسلاحف

 

 

كنوزنا-ياسين بن سعد 

أجمل من سلقطة والمهدية والشابة أو راس الديماس فلا شيء يشبه جمالها وسكونها وغموضها على إمتداد العام ...إنها الغضابنة جوهرة بحرية مختبئة بين البحر والسماء ولأنها كذلك فكثير من التونسيين لا يعرفونها أو هم لا يعرفون عنها إلا القليل.

ليست الغضابنة فقط قصة بحر وبحارة وصيف ومصطافين بل هي أيضا عبق التاريخ المضمخ برائحة الملح وأردية الحضارات القديمة ففي هذا المكان استقر البونيون وبنى الرومان فيلاتهم البحرية الفسيحة ومنها villa romaine الأثر الذي ظل شاهدا حزينا على زمن المجد الأثيل لما كانت كل هذه المنطقة الممتدة من سلقطة شمالا إلى الشابة جنوبا مستعمرة رومانية مزدهرة لم تتورع عن مقارعة يوليوس قيصر.

ربما تصبح الغضابنة  يوما ما بنفس أهمية المدن التاريخية ، فالموقع الأثري الدواميس بالشعابنة المتاخمة لها ، يحتوي على العديد من الآثار التي قد تكون لمدينة بحرية أخرى تمتلك مقومات المدن المزدهرة ومن هذه المقومات الميناء والمرافق العامة.

يعود القسم الأكبرمن هذا الموقع إلى الفترة الرومانية وتحديدا إلى القرنين الأول والثاني فيما بعض اللّقى ترجع إلى الفترة البونيّة وأما مكونات الموقع فتوحي بأنه يعود لتجمع حضري هام متمركز حول نواة عمرانيّة متطوّرة على غرار المدن الساحليّة البونية أو الرومانيّة وهذا التجمع هو الذي يدفع إلى الاعتقاد بأنه قد يكون مدينة مستقلة تقع في منتصف الطريق بين سلقطة (سلكتوم) والشابة (كابوت فادا).

عبرالجهوية 82  ينعرج المعبّد نحو قرية الغضابنة وعلى جانبيه تصطف المحلات التجاريّة والمرافق الأساسيّة ، وهذا التخطيط  يبيّن أن القرية لم تكن في الأصل سوى بضع منازل لسكن البحارة والفلاحين قبل أن تتوسّع بعد استقرار أعداد من الوافدين إلى المنطقة وتزايد الحركة السياحية والتجارية.

يرجع أهل الغضابنة إلى عرش أولاد إبراهيم وهذا النسب يحيل على القبائل العربية التي جاءت إلى تونس منذ استقل بن باديس بحكمها خارجا على الخلافة الفاطمية وما يؤكد هذا المعطى هو أن الشعانبة المجاورة والتي قد تكون الأصل وليس الفرع هم من أصول عربية كذلك ينسبهم البعض إلى قبائل المثاليث بينما يربطهم آخرون بقبيلة سليم تحديدا مع وجود امتدادات لهم بالجزائر واختلاف بسيط في الإسم حيث يسمون الشعانبة وعنهم يقول شيخ المؤرخين الجزائريين أبو القاسم سعد الله "الشعانبة (سكان الشعابهم في الأساس والغالب حلف قبلي تشكل من القبائل الهلالية وانضمت اليه لاحقا أصول أخرى من بني سليم كبني مرزوق والطرود والمرابط وتناسوا نسبهم وظنوا لاحقا أنهم من بني سليم".

رغم التوسّع الذي عرفته الغضابنة فهي مازالت ملحقة بجيرانها وبعد أن كانت تتبع قصور الساف أصبحت تابعة لجارتها الجنوبيّة الشابة لكن أيا كان التقسيم الإداري فإن كل مدن وقرى هذا الجزء من الساحل تشترك في ذلك الامتداد الذي تحرسه غابة الغضابنة التي تمسح  693 هكتارا وتتشكل من غطاء نباتي يمتد من العالية إلى حدود سيدي عبد الله.

تعاني الغابة من اعتداءات بعض المتساكنين ورغم ما طالها فهي تظل الرئة التي تتنفس بها المهدية وهذه الرئة الخضراء تحفل بأشجار الأكاسيا والكلاتوس والصّنوبر والنباتات الزهريّة والعطريّة ، كما تعيش فيها أنواع من الطيور ، والحيوانات كالأرنب، والخنزير ، والحجل إضافة لبعض القوارض والزواحف والحشرات .

البيئة البحرية لا تقل بدورها غنى وهي تضم عديد الأنواع من الطّحالب ، واللاّفقاريات والقشريّات والأسماك ، وعلى أهمية الثروة السمكيّة في هذا الجزء من سواحل ولاية المهدية فإن الغضابنة ليس فيها ميناء ولا حتى رصيف يحمي مراكب البحارة الذين يمارسون الصيد التقليدي.

خلال الأعوام الأخيرة صار شاطئ الغضابنة محط إهتمام المعنيين بالبيئة والحياة البحرية في العالم حيث تم أكتشاف 14عشا للسلاحف البحرية وخلال شهر ماي المنقضي بدأ تعشيش فوج جديد من السلاحف تحت متابعة ورقابة رسمية.

زيارة الغضابنة في متناول كل تونسي يرغب في اكتشاف هذا المكان الساحر من تونس، والذي يبعد عن المهدية 27 كيلومترا مرورا  بقصور الساف وأما عبرالشابة فالمسافة 10 كيلومترات وفي الحالتين فإن قسما من المسلك المعبد المؤدي  إلى الشاطئ  وبطول كيلومتر سوف يمر وسط الغابة.

الطريق إلى الشاطئ تزينه زهور الأكاسيا الصّفراء والمعبّد الضيق ينتهي بموقف للسيارات تتزاحم فيه سيارات المصطافين القادمين من مناطق عديدة من تونس بعضهم يزور المكان لأول مرة وآخرون تعودوا على القدوم كل صائفة.

والحقيقة أن بحر الغضابنة فيه الكثير ممّا يجذب التونسيين فهو يتميز برماله النقيّة ومياهه الكريستالية التي تشكل نشازا جميلا في وقت يتزايد فيه التلوث ويزحف الانجراف والاسمنت وترتع مياه الصرف الصحي في كثير من الأحيان دون حسيب أو رقيب.

أشبه بلوحة زيتيّة موزعة بين الزّرقة والبياض ، هو شاطئ الغضابنة وفي هذه اللوحة أمواج ومراكب ونوارس وبحّارة ، هو بحر ساحر في قرية خجولة لا يمكن فصله جغرافيا وطبيعيّا عن بحر الخمارة أو الشعابنة الواقعتين في الناحيتين الشمالية والجنوبية فكل هذه النقاط الساحلية تقابلها شواطئ شاسعة وتحميها كثبان رملية ترتفع عدة أمتار ما يشكل إمتدادا بحريّا موحّدا بصريّا وجماليّا لن يتغيّر إلا على مقربة من شاطئ الدوّيرة  لما تحضر التكوينات الصخرية.


أحدث أقدم

نموذج الاتصال