تحدثنا في المقالات السابقة عن بعض المعالم التاريخية المهمة في مدينة تونس منها ما تم ترميمه وإصلاحه أو هو قيد الترميم ومنها كذلك ما بقي متروكا ومهملا رغم قيمته الرمزية العالية ونواصل في هذا المقال الإهتمام بالقصور المتروكة ومن أبرزها دار الشريف الواقعة بالربض الشمالي وتحديدا في نهج الولي الصالح سيدي معاوية وهذه الدار اشتراها إمام جامع الزيتونة محمد الشريف في 1821م.
يعود هذا القصر كما يدل اللقب إلى عائلة ذات نسب كريم وقد سكن فيها عدد من أعيانها وأعلامها قبل انتقالهم بالسكنى إلى الضاحية الشمالية للعاصمة أسوة بعديد العائلات التي كانت موجودة في المدينة العتيقة ومن هؤلاء نذكر الشيخ جعفر الشريف، والشيخ عبد الكبير الشريف والشيخ الصادق الشريف والشيخ البشير الشريف والشيخ والعالم الجليل محمد الشريف الإمام الأول لجامع الزيتونة وقد تم تصنيف هذا القصر الفخم معلما تاريخيا محميا في أواخر أوت من سنة 1999قبل أن يصبح مهجورا تماما ويتعرض إلى السرقة والتخريب.
لا يمكن قطعا الحديث عن هذا المكان دون التوقف عند الوليّ سيدي معاوية الذي الذي ينتسب هو الآخر إلى الأشراف فهو معاوية بن عتيق بن أحمد بن محمد الشريف بن حمزة من ذرّية الإمام الحسين بن علي بن أبي طالب من زوجته فاطمة الزهراء بنت الرّسول الكريم محمد صلى الله عليه وأشراف دخلة المعاوين بنابل يقال أنّ جدّهم الشريف الشيخ أبا محمد حسن العسكري قدم من مكّة المشرّفة في حدود سنة 430 هـ ونزلوا بالدخلة (الوطن القبلي) فنسبت بالتالي لأحد أسلافهم الأوّلين وهو الشيخ معاوية الشارف رضي الله عنه.
ليس صدفة إذن أن تستقر عائلة الشريف في هذا المكان بالذات من المدينة القديمة فهو عابق بعطر الأشراف من النسب الكريم وهو أيضا مستقر لعائلات مشهورة وأسماء بارزة من أهل الحاضرة وغيرها كل في ميدانه ومنها دار المقرىء والمؤذن الشيخ علي البراق وبيوت الحلواني والخياري والتازركي والزهار والنابلي وكشك وشقرون.
آل الشريف هم اذن من أشراف العاصمة المعروفين ومنهم عائلة محسن وهم فرع من الجد الأول وعائلات النيفر وبن عاشور وقبادو والقلشاني وبن عثمان والحشايشي والعنابي وادريس والنقاش وبن حسن وغيرهم كثير لكن الأشراف موجودون أيضا في مناطق أخرى من البلاد كأشراف مساكن والقيروان وصفاقس.
يذكر ابن أبي الضياف بعض أعلام عائلة الشريف ومنهم حسن الشريف ابن عبد الكبير الشريف ابن السادة الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم وتطهيرا فيقول "واستكتبه أمير العصر حمودة باشا وقربه نجيّا وكانت صناعة الإنشاء مقصورة يومئذ على الوزير الكاتب أبي محمد حمودة بن عبد العزيز ...فضاق ذرعه بمزاحمة مثله في الصناعة يقال أنه تحيل وأخبر الباي بسر كان أودعه عند الشيخ الشريف وادعى أنه سمعه من حاشية الشيخ ولما أراد الله نفع المسلمين بالعلم قال الشيخ هذا مما يخدش وجه الأمانة فنبذ الخطة ظهريا وتركها نسيا منسيا .يقال أنه رأى في منامه قبل التسليم أنه سقط في خندق فاستغاث برسول الله صلى الله عليه وسلم فجذبه وأخرجه.
وظهر مصداق الرؤية وهو أن شيخنا أصبح يبث العلم في صدور الرجال وتراكموا على دروسه من كل حدب ينسلون وانتفع به أعلام كشيخنا أبي إسحاق إبراهيم الرياحي وشيخنا أبي عبد الله محمد بيرم الثالث وشيخنا أبي عبد الله محمد البحري بن عبد الستار...إلى غيرهم مما لا يأخذه نطاق العدّ رأيته وأنا طفل مع أبي يقرىء في الجامع صحيح مسلم بشرح الأبيّ وسائر مدرسي الجامع أمامه".
خلال هذه الفترة وبعدما تعذر إيجاد شخصية مقبولة لإمامة جامع الزيتونة من البكريين الذين توارثوا هذه المهمة قال حمودة باشا "لا تبقى إمامة جامعنا الأعظم ملعبة بين الأطفال والجهال وأقدّم من لا يتكلم في تقديمه مسلم وهو شيخ الشيوخ الجامع بين شرفي النسب والإكتساب أبو محمد حسن ابن الإمام الشيخ عبد الكبير الشريف".
هكذا آلت إمامة الجامع الأعظم في تونس إلى هذه العائلة ذات النسب الشريف وفي ذلك يقول محمد العزيز بن عاشور في كتابه عن جامع الزيتونة "واستمرت الإمامة ...بين يدي أسرة الشريف وإخوانهم آل محسن وتنحدر الأسرتان من الجد الجامع الشيخ العالم سيدي أحمد الشهير بإمام جامع دار الباشا والمتوفى 1672ولم يتوقف التسلسل إلا في ثلاث حالات وهي إمامة الشيخ إبراهيم الرياحي وإمامة الشيخ صالح النيفر وفي عهد الجمهورية إمامة الشيخ البشير النيفر".
يؤكد المؤرخ الفرنسي جاك ريفو أن الجد الأول لآل الشريف جاء من تركيا مثل آل بيرم وآل بلخوجة أي مع حملة سنان باشا لطرد الاسبان فيما يفصل بن عاشور من ناحيته النسب الكامل لهذه الأسرة التي تعود بجذورها إلى الإمام علي رضي الله عنه فيقول "أما الشيخ حسن فهو ابن عبد الكبير ابن أحمد ابن محمد ابن أحمد ابن أبي محمد الحسن ابن ولي الله أبي الحسن علي ابن أبي محمد حسن ابن أبي العباس أحمد ابن أبي الفضل أبي القاسم ابن أبي عبد الله محمد ابن أبي هاشم قريش ابن أبي مهدي عيسى ابن أبي زيد عبد الرحمان ابن أبي سعيد خلف ابن الشيخ الصالح الولي أبي الحسن علي ابن أبي الرياح فرج ابن أبي الحسن علي ابن أبي عبد الله محمد ابن أبي العرب إسماعيل ابن أبي عبد الله محمد ابن أبي العرب إسماعيل ابن أبي محمد جعفر الصادق ابن أبي عبد الله الحسين ابن أبي الحسن سيدنا علي ابن أبي طالب رضي الله عنهم جميعا".
أورد ابن أبي الضياف بعض مواقف هذا الشيخ ومنها أنه "أتى يوما من داره إلى الجامع وقت الظهرين فتعلقت بثيابه إمرأة يجرها تركي من الجند إلى بيته في فندق العطارين كرها فمسك الجندي ورغب منه أن يتركها ولا يهتك ستر حجابها فتساكر الجندي وأبى فخلع برنسه وافتكها منه قهرا وحمله بنفسه إلى الداي وأعيان العطارين من خلفه يريدون القبض على الجندي خوفا على الشيخ وهو ينتهرهم ولما قارب دريبة الداي تعرضت له الحوانب وأرادوا أخذه من يده فأبى إلا أن يدفعه بنفسه للداي وخرج الداي وقال له هذا المحارب يبقى في محبسك إلى أن يبلغ خبره إلى الأمير ورجع إلى الجامع وفي الحين بعث الداي ترجمانه إلى الأمير يخبره وهو يومئذ حمودة باشا فكان من سياسة هذا الأمير أن أمر بقتله خنقا في الحين ولم يجد وقتئذ كاتبا حاضرا فكتب الباي أمر القتل بخطه ورجع الترجمان وبعد العصر خنق الجندي وألقي ببطحاء القصبة".
قصة أخرى مؤثرة رواها ابن أبي الضياف عن هذا الشيخ الجليل سليل الأشراف قائلا "يحكى أن أمة من رقيق السودان هربت من سيدها واعترضته في الطريق ولاذت به في الشفاعة لسيدها فقال لها تقدمي وهو وراءها من زاوية سيدي أحمد بن عروس إلى طرف الربض في حر قائلة ولما وصل الدار أوقفها ودق الباب بنفسه
فخرج سيدها فلما رأى الشيخ ارتاع وأكب يقبل أقدامه ويقول له يا سيدي لو بعثت إلي لأتيتك والشيخ يقول له أما تحب أن أزورك ثم قال له إن هذه الأمة استشفعت بي إليك لتبيعها ولما رآها ارتاع وقال له على البديهة يا سيدي أيسوغ لي ملكها حتى أبيعها وهي أتت معك هي حرة لوجه الله ووجهك واشهد علي بذلك".
توفي الشيخ حسن الشريف في سبتمبر 1819خلال الطاعون الجارف الذي ضرب البلاد وشارك الباي حسين في حمل نعشه ونزل إلى قبره ومن الغد قدم أخاه محمد ابن عبد الكبير الشريف للخطبة وقد وصف ابن أبي الضياف هذا الشيخ الجليل وصفا دقيقا فقال "تلقى راية الخطبة بيمينه واستحقها بشرفه وفضله وعلمه ودينه فحرك بمواعظه المجامع وشنف المسامع وأرسل المدامع .
آية الله في العفة والنزاهة وحسن الخلق والفصاحة في الخطبة جانحا لأخلاق الصالحين من الزهد وعدم التكلف والتواضع ورحمة المسكين حسن السجية سمح اللقاء ...وإن الباشا المشير أبا العباس أحمد باي لما بنى قصره بباردو طلب من الشيخ أن يكون أول من يدخله فأجابه لذلك ...ولم يزل على حاله محببا إلى الناس إلى أن ارتحل إلى دار البقاء يوم الخميس 8أوت 1839ودفن في تربة آله صلوات الله عليهم ومن الغد تقدم لهذه الخطة العلية شيخ التقوى وركن العلم الأقوى وصدر الفتوى إبراهيم الرياحي.
بجوار دار الشريف زوايا ومساجد وترب لشخصيات سياسية ودينية كبيرة أبرزها تربة ومسجد الشيخ إبراهيم الرياحي وأما الأنهج القريبة فتحفل بالقصور الفخمة من نهج عاشور حيث المدرسة العاشورية ونهج المنستيري حيث دار المنستيري وصولا الى نهج التريبونال حيث قصر خيرالدين ومدرسة بئر الأحجار ودار لصرم ودارالجزيري وصولا إلى نهج الباشا حيث بيت آخر من بيوت الأشراف وهو بيت بن عاشور.
رغم الإهمال والتخريب الذي أصابها فان دار الشريف تبقى معلما تاريخيا ثمينا جدا يتميز بتنوع هندسته وبالزخارف والنقوش التي زينته لفترة طويلة أي منذ بناء الدار في منتصف القرن التاسع عشر وهذا التنوع يشمل الواجهة الأمامية التي غلبت عليها التأثيرات الايطالية وكذلك السقيفة وصحن الدار برواقيه اللذين تعلوهما أقواس ثلاثة فيما كانت الجدران مكسوة بنوعين من الجليز الايطالي أحدهما ذو خلفية زرقاء والآخر خلفيته بنية وفي الدار أيضا طابق علوي وداربيز جميلة.