أبواب تونس (2) ...باب البحر

 



كنوزنا-ياسين بن سعد

أشرنا في المقال السابق إلى أن باب البحر أو "باب بحر" كما يسميه التونسيون هو من أقدم الأبواب التي كانت في أسوار الحاضرة التونسية وأكثرها أهمية فقد كان حلقة الوصل بين المدينة القديمة والعالم الخارجي .

كان الباب جزءا من السور الأول الأغلبي الذي بني حول مدينة تونس في المئة الثالثة للهجرة والذي سيعرف تحسينات وإضافات عديدة خلال الفترات التاريخية اللاحقة وخصوصا خلال عهد بني خراسان قبل أن يتم إضافة سور ثان خارجي بعد إنشاء الأرباض خلال الحكم الحفصي.

يؤكد ابن أبي دينار في المؤنس تبعية السور الأول للأغالبة فيقول "وأما السور فمن بناء بني الأغلب والقصبة أيضا وكانت عمال إفريقية سكناهم القيروان وأول من سكن تونس من العمال الأغالبة : قال ابن ناجي رحمه الله : واتخذ بنو الأغلب تونس لمنتزهاتهم وبنوا الجامع الأعظم".

توجد إشارات عديدة في المصادر التاريخية وكتب الرحالة العرب والأجانب إلى باب البحر وهي تجمع على وجود السور الأول قبل حكم بني خراسان وتذكر بعض المعالم أو الأحداث التي حصلت على مقربة منه ومنها جامع الزرارعية المعروف بجامع الزيتونة البراني والذي بناه الدعي أحمد ابن مرزوق المسيلي في 1282 م خارج باب البحر وكذلك محاصرة عساكر سنان باشا للباستيون الذي بالمكان وسيطرتهم على هذا المسجد الذي كان نقطة يخزّن فيها المحتلون الإسبان السلاح والسلاسل لسجن وتعذيب التونسيين.

يعرض ابن الخوجة في كتابه عن تاريخ تونس التغييرات التي طرأت على باب البحر فيقول "أما هيكله القديم فقد كان ضئيلا على قياس بعض أبواب مدينة تونس كباب سيدي عبد السلام وباب سيدي قاسم وباب القرجاني لعهد قريب وكان موقعه لنحو عشرين أو ثلاثين خطوة ليسار الباب الحالي بالنسبة للخارج" أي أنه كان أقرب ما يكون إلى نهج منجي سليم وقهوة دينار في زمننا الحالي ويضيف أن المشير أحمد باي لما عاد من زيارته إلى فرنسا " كان في جملة مبتكراته إنشاء باب البحر بعنوان معلم تونسي فخم يحاكي بعض ما شاهده في رحلته من أقواس النصر الكثيرة فأمر بتشييد الباب المذكور عوض الباب القديم الضئيل الذي هو من بقايا العهد الحفصي في ما أظن وكان ذلك في سنة 1848 وكان القائم ببنائه المعلم محمد بن تيوة وممن شاركه في ذلك تلميذه المرحوم سليمان النيقرو مهندس البناء وقد كتبوا بالخط الغليط على واجهتي البناء داخلا وخارجا أبياتا من الشعر تذكارا لبنائه قيل من نظم الشيخ المدرس أحمد بيرم ورأيت من نسبها لابن عمه محمد بيرم الرابع ...وعبارة الأبيات المكتوبة على الواجهة الداخلية بسم الله الرحمان الرحيم ما شاء الله وصلى الله على سيدنا محمد وسلم...بابداع هذا الباب قد صدر الأمر من الملك السامي الذرا من له الفخر...فجاء عديم المثل أبرز شكله ...على صورة غرّا يناسبها القدر...ولا بدع في إبداعه بمشيده ...تأنق في إحكام آثاره الدهر...وما هي أولى ما أفاد فكم له ...بتونس من صنع يشاد به الذكر...ولما اكتسى ثوب التمام وأشرقت ...محاسنه اللاتي يباهي بها العصر...غدا الدهر يشدو إذ يقول مؤرخا...بنا أحمد ذا الباب له النصر.

وأما الأبيات المنقوشة على واجهة الباب الخارجية فهذه عبارتها : بانشاء هذا الباب قد كمل الفخر ...وسار مسير الشمس في الفلك الذكر...به أمر المولى المؤيد من له ...مراقي علا ينحط عن نيلها البدر...فجاء كما ترضى النفوس مؤسسا...على صفة ما حام من عدها فكر...إذا كان ما تبتدي الملوك أزاهر...فإن الذي يبدي المشير هو العطر...فشكرا لمن أولى وحق لمن غدا...جميل المساعي مثله الحمد والشكر...ودونك من ذا الباب عنوان فضله...ولج ترى الفضل الذي ما له حصر...أديمت له النعم وعولج بالمنى...ودانت له الدنيا وطال له العمر...ولما انتهى تأسيسه وتكاملت ...محاسنه اللاتي افتخر بها العصر...تسنى لمن قد قال فيه مؤرخا...بنى أحمد ذا الباب دام له النصر".

دام بناء باب البحر الجديد أكثر من عام وكان الإبتداء بالواجهة الخارجية المطلة اليوم على شارع فرنسا وهذه المنطقة الموجودة خارج السور والمؤدية إلى البحيرة وإلى حلق الوادي لم تكن في القديم سوى مسالك ترابية وخنادق للمياه الآسنة تصب فيها فضلات المدينة وقد قدم ابن الخوجة وصفا دقيقا لذلك قائلا : " والفناء الذي كان موجودا بين باب البحر وموقع القنصليات كانت ترسم به سوق الخضراوات والبقول والفحوم وما أشبه وبالمكان نفسه بقايا حصن الباستيون ولعل من بقيته محلات قمرق الدخان القديم الذي مسح من لوحة الوجود...وما وراء ذلك كان مصبا للأزبال المجتمعة بدور المدينة ومساكنها وشوارعها ولقد بلغ من أمر هذه المزابل أنها اعتلت حتى كادت أن تكون جبلا في عهد الباي حمودة باشا".

فرض حمودة باشا على الأهالي رفع هذه المزابل التي كانت مهيأة ليتترّس بها الغزاة وقد استعملوا في عملية رفعها التي استغرقت عدة شهور ما حصل بأيديهم من أسارى النصارى مقابل أجر كان هؤلاء يجمعونه لفدية أنفسهم.

وبالجملة يقول مؤرخنا "فإن الحاضرة التونسية كانت ...وسخة قذرة فوق ما يتصوره العقل لذلك كانت الأوبئة تتعاهدها على دور العصور...وبذلك وصفها كل من زارها من الأوروباويين في ذلك العهد والشواهد على ذلك كثيرة ".

خلال الفترة الإستعمارية سعى المحتل الفرنسي إلى طمس الهوية العربية الإسلامية لهذا الفضاء العمراني والتاريخي مسميا شارع البحرية المؤدي الى البحيرة بشارع فرنسا وباب البحر بباب فرنسا وساحة البورصة التي تلي باب البحر بساحة لافيجري وهو أحد أشرس المسيحيين الفرنسيين، فبقي باب البحر ورحل المستعمر دون أن نتخلص من شارع فرنسا ونستعيد شارع البحرية كما كان ...مازال باب البحر رغم ذلك صامدا وسيصمد بتاريخه ورمزيته وإن حوّلوه يمنة ويسرة.


أحدث أقدم

نموذج الاتصال