بنزرت ...إطلالة على الرأس الأبيض

10 كيلومترات هي المسافة الفاصلة بين قلب مدينة بنزرت والرأس الأبيض لكن قبل الوصول ستكون طريق الكرنيش المعبر إلى هذا المكان وعلى إمتدادها ستهيمن زرقة البحر وبياض البيوت والمحلات الفخمة وإذا كان الطقس مناسبا فإن (الشاطئ الجميل / la belle plage) سيكون نقطة توقف لا مناص منها قبل مواصلة الرحلة بمحاذاة رأس البلاط واختراق غابة الصنوبر الكثيفة صعودا إلى جبل الناظور.

لن تستغرق الرحلة بالسيارة أكثر من 20 دقيقة ينتهي المعبد بعدها عند "منتزه الريف" الذي يشكل فضاء ترفيهيا بعيدا عن صخب المدينة وزحامها اليومي ومع أن هذا الفضاء يكون شبه خال من الحرفاء خلال الفترة الشتائية فإن الصورة مختلفة تماما في هذه الفترة الصيفية حيث تكثر الحركة السياحية وتتوافد العائلات إلى المنطقة وبعضها يأتي للنزهة والاستكشاف بعد أن يكون قد عرج على شاطئ المغارة الصخري (la grotte) الذي يعد نقطة جذب أساسية في بنزرت مثلها مثل الكرنيش والميناء القديم علما بأن البعض يفضل الانطلاق من لاغروت عبر المسلك الجبلي الخطر للوصول إلى الرأس الأبيض.

في دفاتر الرحّالة والمؤرّخين من سترابون إلى بلين نجد ذكرا لهذا الذراع الصخري المتوغّل في البحر والذي إسمه (الرأس الأبيض / promontorium candidum) لكن هذا الموقع الطبيعي الساحر ليس سوى تفصيل صغير في الدراسات الأركيولوجيّة ، التي اهتمت بالمنطقة من بنزرت (هيبودياريتوس) شرقا إلى رأس القران وعنق الجمل غربا.

تعطي دراسة محمد رياض الحمروني حول المواقع الأثرية برأس أنجلة وما حولها فكرة عن الزّخم الحضاري والتاريخي لبنزرت والذي لا يتوقف عند الموقع المذكور بل يتخطاه إلى "عين الداموس" ويتواصل إلى الرأس الأبيض الذي يعد حارس خليج بنزرت رفقة عدد من الرؤوس البحرية الأخرى.

تخبرنا الدراسة عن مدينة بحرية رومانية فيها منشآت مينائية وأحواض لتصبير الأسماك ومنازل للصيادين وتحصينات عسكرية وبقايا خزف وأوان وجرار فخارية وحول هذه المدينة العديد من المواقع العائدة إلى القرنين الرابع والخامس الميلادي، ولعل هذا الحضور البشري القديم هو ما يفسر إنشاء تلك القناة المائية الضخمة التي أحصتها الدراسة الجيو / أركيولوجية والتاريخية حول السواحل وهذه القناة كما تقول الدراسة كانت تمتد من بنزرت إلى عين الداموس مرورا بالرأس الأبيض.

قد يكون الراغبون في الوقوف على مرتفع الرأس الأبيض من هواة المغامرات الاستكشافية ورياضة المشي ومن ثمة سيأتون إلى بنزرت من دون سيارة وهؤلاء سيجدون حافلة الناظور التابعة للشركة الجهوية للنقل لتقلهم إلى محطة منتزه الريف ومن هناك يبدأ المسلك الترابي المؤدي إلى وجهتهم.

إنطلاقا من هذا المسلك المجاور للمنتزه يتعين قطع نحو كيلومتر تقريبا للوصول إلى تخوم الرأس الأبيض وعلى طول الطريق يهيمن جبل الناظور الأخضر يسارا والجروف الصخرية الحادة المشرفة على الأفق البحري يمينا فيصبح المشي متعة خالصة يداخلها بين الفينة والأخرى فضول كبير وأسئلة متعلقة بتلك المنازل والقصور الفخمة التي بنيت بطريقة مدهشة في المنحدرات ...كيف شيدت في هذا الأماكن الخطرة ؟ وكيف تحولت هذه المنطقة الجبلية والغابية إلى تجمع عمراني وسكني يبدو من خلال حضائر البناء التي فيه أنه بصدد التوسع .

يجاور الرأس الأبيض منطقة جبلية وغابية شاسعة كانت تستعمل للتدريبات العسكرية والرماية بالذخيرة الحية وللوصول إلى هذا الجبل المتكون من حجر كلسي أبيض يرجع تشكيله لأكثر من 50 مليون سنة لا بد من المشي بحذر والبدء في صعود المرتفع وهي عملية شاقة تنتهي بقمة ترتفع إلى 100 مترا تقريبا وعلى هذه القمة سيكافأ المتسلق بمشهد رائع يمتزج فيه بياض الجبل مع الأزرق الكبير وموسيقى الأمواج القادمة من الآفاق البعيدة.

ليس غريبا أن يسمى هذا الرأس البحري بالرأس الأبيض فلونه هو ما جعل البحارة والرحالة والجغرافيين القدامي من أوروبيين وعرب يتفقون على هذه التسمية الذي أضاف إليها المستكشفون المعاصرون إسما آخر هو "الدلفين"، فالجبل المحاط بالماء في قسمه الأمامي الأقل إرتفاعا هو بالفعل أشبه ما يكون بهذا الحيوان البحري الأليف الذي تحوم حوله الحكايات والأساطير.

تسلق الرأس الأبيض ليس سهلا حقا ولا يقدر عليه إلا المتمرسون بمثل هذه المغامرات وما توفره من متعة حسية وبصرية بقي أن المنطقة ليس فيها الدلفين الأبيض فقط وإنما هي فضاء غابي شاسع فيه غطاء نباتي وحيواني متنوع وفي أسفله جروف صخرية وأحواض بحرية ومن ثمة فمن يريد الاستمتاع بالجمال الأخاذ لهذه البقعة من تونس فلا بد من أن يواصل المغامرة أبعد ما يكون فينزل إلى ذلك الحوض البحري الرملي الذي لا يتجاوز طول شاطئه الخمسين مترا والذي يسمى "شاطئ الرأس الأبيض" ولا بد أيضا من أن يسير في المسلك الجبلي ويشم روائح الأكليل والزعتر البري والقضوم وينعش الروح بذلك الهدوء والصمت المطبق الذي لا يقطعه إلا صوت الأمواج.

أحدث أقدم

نموذج الاتصال