كنوزنا
-
ياسين
بن سعد
يكاد ذكر جامع المهراس يغيب عن كتب الرحالة والمؤرخين رغم قدم هذا المعلم التاريخي وعراقته وتمركزه في مدخل نهج جامع الزيتونة أحد أهم أنهج المدينة القديمة.
كان الإعتقاد سائدا بأن الجامع من إنجازات الدولة الصنهاجية لكن النقيشة التي وجدت على أحد جدرانه رفعت الغموض عن تاريخ التأسيس حيث ثبت أنه يعود إلى زمن عبد العزيز بن عبد الحق بن خراسان.
يبين ابن خلدون كيف تولى الخراسانيون إمارة تونس بعد أن شتّت الهلاليون حكم المعز بن باديس الخارج على الخلافة الفاطمية فيقول"لماتغلب العرب على القيروان وأسلم المعز وتحول الى المهدية اضطرمت افريقية نارا واقتسمت العرب البلاد عمالات وامتنع كثير من البلاد على ملوك آل باديس مثل أهل سوسة وصفاقس وقابس وانقطعت تونس عن ملك المعز ووفد مشيختها على الناصر ابن علناس فولى عليهم عبد الحق ابن عبد العزيز ابن خراسان يقال انه من أهل تونس والأظهر أنه من قبائل صنهاجة فقام بأمرهم وشاركهم في أمره وتودد إليهم وأحسن السيرة فيهم وصالح العرب أهل الضاحية على أتاوة معلومة لكفّ عاديتهم وزحف تميم ابن المعز من المهدية اليه سنة 458هـ...فحاصر تونس أربعة أشهر إلى أن صالحه ابن خراسان واستقام على طاعته فأفرج عنه".
لم يمكث عبد الحق في حكم تونس طويلا فقد توفي وتولى بعدهإبنه عبد العزيز بن خراسان ومن مآثرالأخير جامع المهراس وتوضح النقيشة الموجودة في صحن الجامع هذه المعلومة التاريخية فهي تحتوي على العبارات التالية :بسم الله الرحمان الرحيم وصلى الله على محمد وعلى آله وسلم قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفؤا أحد أمر بعمله الشيخ الأجلّ أبو محمد عبد العزيزبن عبد الحق ابن خراسان وذلك في رمضان عام خمس وثمانين وأربعمائة رحم الله من قرأ ودعا له بالرحمة".
ويوافق هذا التاريخ سنة 1092 ميلادية علما بأن النقيشة ورغم ما أصابها من تغير بفعل الزمن والإهمال توضح أيضا أن من تولى بناء هذا الجامع هو المعلم محمد بن علي في عهد عبد العزيز الذي كان حاكما ضعيفا فوض جزءا من سلطته لأخيه إسماعيل.
بالإضافة إلى الغموض الذي حف ببناء هذا المعلم الديني والتاريخي لم نجد في المصادر التي ذكرت جامع المهراس على قلتها تفسيرا لهذه التسمية التي تبدو للوهلة الأولى مستغربة والأرجح أن لفظ المهراس إنما يحيل إلى شق المهراس بجبل أحد وبالتالي إلى غزوة أحد ومعلوم أن نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم قد لجأ إلى إلى هذا الشق أو الصدع الجبلي في آخر الغزوة بعد أن نزل الرماة عن الجبل وكان معه سبعة من الأنصار وطلحة بن عبيد الله وسعد بن أبي وقاص رضى الله عنهم واستشهد الأنصار وهم يدافعون عن الرسول وقد خرج علي بن أبي طالب ، حتى ملأ درقته ماء من المهراس ، فجاء به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليشرب منه، فوجد له ريحا ، فعافه ، فلم يشرب منه ، وغسل عن وجهه الدم ، وصب على رأسه وهو يقول :اشتد غضب الله على من دمى وجه نبيه.
وصف الفيروز آبادي المهراس قائلا:" المهراس:شبه حوض كبير في وسط الوادي على يسار الصاعد إلى أحد، وهو نقرة في الجبل طولها نحو أربعة عشر ذراعًا في عرض سبعة أذرع، والمهراس غِبَّ ماء السماء، يصير غديرًا صافيًا يُسبح فيه ، ولو أن أهل المدينة إذا خرجوا متنزهين إلى أُحد لكفاهم ذلك الماء".
لا شك أن الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم لم يشرب من الماء الذي جاء به علي ابن أبي طالب كرم الله وجهه لأنه لم يكن ماء قد تجدد وأصبح نقيا والحقيقة أن بجبل أحد 3 مهاريس أو جرار كما تسمى عند أهل المدينة وليس مهراسا واحدا وهي تقع جميعها في شعب الجرار مقابلة لأرض معركة أحد وأما عن لفظ الجرار فهو يأتي من كونها تشبه الجرة المحفورة في الصخر والتي تحفظ مياه الأمطار ويستفاد من هذه المياه للغسل والشرب.
شهد جامع المهراس عدة إصلاحات وترميمات بعد الإستقلال حيث تم هدم المبنى القديم وتشييد البناء الحالي الخالي من كل ما هو أثر أصيل ويذكر ابن الخوجة أن من أئمته العالم الصالح المدرس الشيخ أبو العباس أحمد القروي الإمام الثالث بجامع الزيتونة والقاري على كرسي الختمة ويقام ختم الحديث به في 14 رمضان ولاحقا أصبح جامع المهراس جامع خطبة وأول خطيب به المرحوم الشيخ الفقيه محي الدين قادي أمين مجمع الفقه الإسلامي بجدة سابقا.
الداخل إلى جامع المهراس هذه الأيام يلاحظ أن هذا المعلم العتيق في حاجة ملحة إلى عناية أكبر من وزارة الشؤون الدينية بإجراء ما يلزم من تجديدات وإصلاحات وإضافات وأما محافظة تونس للتراث فهي مطالبة من دون شك بنفض الغبار عن النقيشة وإبراز ما فيها من معطيات وتثبيت لوحة في مدخل الجامع تخبر عن تاريخه وبانيه أسوة بكل المعالم المندرجة في إطار المسلك الثقافي والسياحي لمدينة تونس.
بقي أن السؤال الأهم في ما يتعلق بهذا المعلم الديني والحضاري هو غياب بحوث علمية تنفض الغبار عن تاريخه وتضيء على مكوناته القديمة ما بقي منها وما اندرس وعلى من عمل به في مختلف المراحل التاريخية .