المؤانسة ...عن الأبواب والبيوت المهجورة


 

كنوزنا - ياسين بن سعد

قصة المؤانسة هي في أحد وجوهها قصة جرجيس فالرحلة واحدة والمستقر واحد والتاريخ مشترك بين أحفاد الصياح العكاري الجد المؤسس لقبيلة عكارة الممتدة شرقا وغربا ، شمالا وجنوبا والواصلة إلى طرابلس ومناطق أخرى من ليبيا ...هي قصة مفعمة بالحكايات والحنين وكما يخبرنا الدكتور سالم لبيض في دراسته عن أصل عكارة فإن العروش التي تنحدر من سلالة الصياح هي أولاد سعيد وأولاد محمد وأولاد بوعلي وأما العروش التي تنحدر من مرافقي سيدي الصياح - سيدي عبد الدايم وسيدي خليف - فهي الزاوية وأولاد عبد الدايم ، الخلايفة وبالنسبة لعروش المؤانسة فقد جاؤوا إلى شبه الجزيرة مع بقية عروش عكارة حيث اندمجوا في نسيجهم القبلي وأصبحوا جزءا منهم ومن المؤانسة انبثقت عائلات معروفة وهؤلاء موجودون بكثرة في طريق مدنين وحمادي والرجاء وحمام مصدق وغيرها من المناطق والأحياء.

في داخل القصر الذي تسمى باسمه أي قصر المؤانسة تجمع عرش المؤانسة وشكل نسيجه القبلي والاجتماعي وصاغ علاقاته الإقتصادية والعائلية والحقيقة أن المؤانسة ليست الإستثناء في هذا الجانب فجرجيس سلسلة من القصور المناطقية فقد كانت فيها قصور أخرى تعرف بأسمائها إلى الآن وهي قصر الشلبة وقصر أولاد محمد وقصر أولاد سعيد وقصر الزاوية وقصر حسي الحربي وقصر القريبيس وقد اندثرت هذه القصور التاريخية والحضارية منذ الستينات ولم يتبق لنا منها إلا بعض الآثار التي تحكي الماضي الأثيل لمدينة جرجيس.

وعرش المؤانسة كما يؤكده سالم لبيض "هو من أكبر عروش جرجيس ويبدو أن فروع هذا العرش وبحكم تفرع أصولهم قد التفوا حول الولي سيدي محمد مصدق الذي أسست له زاوية أولى لا تبعد سوى بضعة أمتار عن كل من جامع وبرج الحصار وزاوية ثانية قرب مركز استقرار هذا العرش".

يفصل لنا سالم لبيض التركيبة العائلية لعرش المؤانسة فيبدأ بالعتايقة ومنهم العبابدة والشراردة والربيعات والمجاعة والمحابيك والأجباو والنواجحية والجنايحية والرقيبات وبعد العتايقة فرع الهلة ومنهم نشأت عائلات الشفاترية والمحاريق والبعاجيل والمطامطة والباعيش والشفافرة والبيض والعواشير والجوايدة والختاتلة والفالغية ثم فرع الشنادة ومنهم المجاذيب والكساكسة والهندة والزرونة والدواهشية وبوزمة وأولاد الشيخ وأولاد خليفة وأولاد بن براهيم ثم القريرات ومنهم الذوايبية والدعابيك والبطاينية والتركة والصلع والصرايرية والعطايا والمصادقة وأما فرع العواوجة فيضم عائلات التراسمة والعواوجة والمازيز والرواشدية.

لقد استقرت عائلات المؤانسة داخل قصرها المعروف إلى الآن باسمها في جرجيس وكان هذا القصر يحتوي على 887 غرفة وكانت تشترك فيه مع عرش الخلايفة علما بأنه لا يوجد تاريخ محدد لبناء هذا الفضاء الاجتماعي والعمراني الذي اختزل التنوع العرقي والديني وامتزجت فيه عادات وتقاليد أصيلة لكن المؤانسة كما نعرفها الآن ليست فقط هذه الفروع القبلية فقد استقرت حول القصر عائلات وافدة من مناطق أخرى بعضها ينتمي إلى قبائل ليبية كما تدل على ذلك الألقاب العائلية إضافة إلى عائلات السود المعروفة بالشواشين.

مازالت بوابة قصر المؤانسة تذكر العابرين بتاريخ هذه المنطقة من جرجيس ولعل الزائر مثلنا لا يجد بدا من التوقف في الأنهج الضيقة لتأمل الأبواب العتيقة الملونة بالأزرق ، أبواب مهملة لحوانيت مهجورة وبيوت خربت وطواها النسيان بعد أن كانت تعج بالحياة وهذه الصورة تكاد تكون نمطية داخل القصر وأحيائه كلها كحارة اليهود المندثرة أو منازل المطامطة بمدارجها وأقواسها لكن اللوحة ليست سوداوية ولا هي تدفع إلى الإستسلام فمازالت في قصر المؤانسة دكاكين من الزمن الجميل وسحنات سمراء لشيوخ من طينة أخرى يصارعون من أجل الحفاظ على بعض المهن الأصيلة وعلى بعض المعالم والملامح القديمة في قصرهم العتيق.

لا يحتاج قصر المؤانسة حقا إلى الكثير لكي تدب فيه الحياة من جديد ويستعيد بريق الزمن الغابر إذ يكفي أن تتضافر جهود أبناء المنطقة للمحافظة على الطابع الأصيل للأنهج والبيوت والدكاكين والأبواب ولسنا ندري حقا لماذا لا تكون في المؤانسة جمعية للمحافظة على تراث القصر ومعماره وأما السلط البلدية فمن واجبها أن تعمل على صيانة روح المؤانسة وتثمين ما بها من كنوز تاريخية فلا يطمس معالمها الإسمنت والتوسع العمراني.

لا شك أيضا أن المؤانسة و- في الجانب السياحي - تحديدا يجب أن تتخلص من النموذج الربحي الذي يحصر الزائر الأجنبي وهو يتعرف على المنطقة ، في بوتقة السوق الاسبوعية أو سوق الأربعاء فلا يأتي إلا لشراء بعض البضائع الرخيصة ثم يذهب في حال سبيله ، فهلا فكر أحد في مندوبية السياحة في تعريف السياح الأجانب وهم كثر في ما يختزنه القصر من موروث تاريخي وحضاري...نسأل ونأمل فعلا أن يتغير وضع قصر المؤانسة نحو الأفضل في قادم الأسابيع والأشهر.

أحدث أقدم

نموذج الاتصال