كنوزنا – ياسين بن سعد
في دفاتر الرحالة والجغرافيين الإغريق والرومان والعرب من سيلاكس وبروكوب وسترابون وصولا إلى البكري والمؤرخين المتأخرين ذكر للهوارية فهي المدينة وهي المرفأ وهي الميناء وهي مقالع الحجارة التي بنت قرطاج وهي مسرح المعارك الحربية الكبرى ففي سواحلها سحق الوندال بقيادة جنسريك الأسطول الروماني الذي قاده باسيليسكوس وعلى أرضها نزل طاغية سيراكوزا ، أغاطكل وفي مياهها دارت إحدى أكبر معارك الحرب العالمية الثانية بين جيوش الحلفاء والمحور وأدت إلى استسلام 250 ألف عسكري ألماني وإيطالي.
موقع الهوارية المميز المتوغل في عمق رأس الرجاء الطيب جعل منها منطقة استراتيجية وقطبا حضريا منذ العهود السحيقة فعرفت بـ "هرمايوم" Hermaeum البونية و"ماركوريوم " الرومانية أو أكيلاريا (مدينة الصقور) المحلقة في أعالي جبلها الشامخ. هذا التاريخ العريق الذي يمتد إلى عدة قرون قبل الميلاد مازالت العديد من الشواهد تدل عليه بدءا من مقاطعها الحجرية المعروفة بالمغاور ، وصولا إلى المدافن التي تم اكتشافها في المرتفعات المطلة على المنطقة.
ارتبط اسم المدينة أيضا برأس أدار وهذه التسمية التي ذكرها البكري في "المسالك والممالك" قد لا تكون عربية بل فينيقية الجذور كما يشير إلى ذلك "منير فنطر" ومصدرها rus addir أو (رأس القوي) لكن في كل الأحوال فإن الهوارية من الناحية التاريخية لا يمكن فصلها عن سيدي داود (ميسوا) والتي شكلت المرتكز الرئيسي للحضور القرطاجي ثم الروماني .
أما خلال الحقبة الإسلامية فإن الهوارية قد هجرت تماما كما يشير إلى ذلك ناجي جلول "ولم تعد لها الحياة من جديد إلا في العهد الحفصي بعد أن تغير موقعها" وقد تجلى ذلك من خلال الاهتمام بتحصيناتها ومنها البرج الذي أدخل عليه السلطان أبو فارس عبد العزيز في القرن 15 عدة إصلاحات "حولته إلى قلعة ضخمة"وتشير عدة مصادر تاريخية إلى أن المدينة العربية الحالية قد بنيت على أنقاض المدينة الرومانية.
تشكل المغاور من دون شك نقطة الجذب السياحي الأولى والوصول إلى هذا المكان انطلاقا من قلب المدينة سهل فالمسافة لا تتجاوز الكيلومترين لكن الموقع الذي يرجع إلى القرن السابع قبل الميلاد مغلق أمام الزوار لوجود خطر انهيار في بعض أجزائه.
حول المغاور وجملها الحجري وأسدها الجاثم تحوم حركة سياحية وتجارية نشيطة متمثلة في عدد من المطاعم والمقاهي ويأتي الكثيرون للسباحة وللتمتع بجمال المناظر الطبيعية التي تعانق فيها الأمواج الصخور.
يتكون شاطئ المغاور من منحدرات صخرية متتابعة على مدى مئات الأمتار وهو من الأماكن المحبّبة لشباب الهوارية وهذا الشاطئ هو أيضا من أفضل الأمكنة لهواة الصيد والغطس وغيرها من الرياضات البحرية لكنه وعر وخطر على العائلات التي يناسبها الشاطئ القبلي الواقع شرقا والذي يبعد قرابة 5 كم عن قلب المدينة.
هو شاطئ رملي يتواصل حتى دار علوش وتسبقه واجهة جبلية رائعة على مدى 6 كيلومترات تقريبا من أقصى نقطة غربا وحتى أبعد نقطة شرقا وفي هذه المساحة الجبلية والبحرية التي تعكس جمال الخلق الربّاني، ثمّة أيضا شواطئ القرّاقة والمتارس ورأس الدرك وهي أيضا من المناطق التي تجتذب أبناء المنطقة والباحثين عن المغامرة والاكتشاف وخصوصا خلال فصل الصيف الذي تمتلئ فيه الإقامات السكنية والمطاعم والمقاهي بالزائرين.
لا يمكن الحديث عن الهوارية دون ذكر أرخبيل زمبرة الواقع على مسافة عدة كيلومترات من المدينة وهذا الأرخبيل المصنف محمية طبيعية هو أحد أجمل النظم الإيكولوجية في تونس وهو يحتاج إلى مقالات لوحده وليس إلى إشارة عابرة في مقالنا هذا.
من يقول الهوارية تحضره أيضا الزيتونة الفينيقية بمنطقة الشرف والتي يناهز عمرها الثلاثة آلاف سنة وهي قد أضحت بدورها من المعالم الأساسية شأنها شأن الرباط الحفصي الذي توسع فوق الاستحكام الاغلبي القديم أو الناظور البحري الذي تم إنشاؤه في 1875.
بالإضافة إلى هذا الزخم الحضاري والسياحي تبقى الهوارية أيضا منطقة غنية جدا بثروتها السمكية وهذا الغنى يلمسه المتجول في "سوق الحوت" أو على أرصفة الميناء حيث تتوفر مختلف أنواع الأسماك من دوراد وقاروص وبلاميط ومرجان وجرّاف وقرنيط، وغيرها لا بل إن بحر هذه المنطقة مازال يزخر ببعض الأنواع التي قلت كثيرا في سواحلنا الشمالية على غرار المنّاني والسرّة واللانغوست والحنشة.
لا تقل الثروة الغابية بدورها غنى وتنوعا فالجبل الذي يبلغ ارتفاع أعلى نقطة فيه 400 م تقريبا يحتوي على غطاء نباتي كثيف يتكون من الصنوبر والبلوط والجبوز وعديد الشجيرات والنباتات العطرية كالضرو والخلنج والزعتر والاكليل وغيرها وهذا دون اعتبار الحيوانات البرية والطيور المهاجرة، وبينها الطيور الجارحة التي أصبحت جزءا من هوية المدينة التي ينتظم بها سنويا مهرجان البيزرة (مهرجان الساف).
توارث أبناء المنطقة الصيد عن طريق نوعين من الجوارح هما الباز والبرني أما الباز الذي يحل بجبل الهوارية خلال شهر مارس فيتم اصطياده واستعماله في صيد السمّان في أفريل وماي، ثم يطلق سراحه مع نهاية موسم الصيد في يوم جمعة وأما طائر البرني فلا يؤخذ إلا 4 من فراخه سنويا وتربى هذه الفراخ على صيد الحجل.
تخضع
البيزرة إلى تقاليد عريقة وتستعمل فيها
ملابس وأدوات خاصة.
ويعتبر
صيد الساف مورد رزق بالنسبة للكثير من
أهالي الهوارية وذلك عن طريق صيد هذا
الطائر وبيعه للبيازرة وبيعه أو استخدامه
في توفير قوت العائلة من اللّحم أحيانا
فطائر الساف يُستعمل لصيد السمّان الذي
يشكل أحد عناصر التراث الغذائي.
كان
لحم هذه الطيور يصنع منه "القديد"،
وتطبخ منه أطباق مختلفة مثل عصيدة السمّان
أما السمّان الطازج فيطبخ باستعمال الزبدة
وتغمس الواحدة في اللبن وتؤكل وهي ساخنة
وقد جرت عادات الهواريات قديما أن تطلق
المرأة الزغاريد إذا نجح زوجها في صيد
السمّان.