قديمة هي
الحمامات قدم المدينة العتيقة لا بل هي مرتكز لا غنى عنه في نسيجها العمراني
والحضاري العريق ومع أن بعض الحمامات اندثر أو أغلق بحكم الاهمال وتداعيه للسقوط
على مر السنين فان بعض الحمامات التي تعد كنوزا تاريخية حقيقية مازالت موجودة الى
حد الآن ومنها حمام سوق القرانة الذي يرجع بناؤه الى أواخر القرن العاشر ميلادي
(378 هـ / 988 م) بأمر من قاضي قضاة تونس وهذه الحقبة التاريخية تحيل قطعا على حكم
الملك الصنهاجي المنصور ابن بلكين ابن زيري الذي ولاّه الفاطميون شؤون افريقية لما
انتقلوا الى مصر.
حول نهج القصبة ونهج جامع الزيتونة تتوزع أسواق المدينة القديمة وتعبق
روائح الزمن الجميل...لا مدينة من دون أسواق وقبل ذلك لا مدينة من دون الجامع
الأعظم ونفحاته النورانية فحوله تدور
الحياة الاجتماعية والتجارية وفي كنفه بنيت المتاجر والورشات وبيوت العبادة الأخرى
والحمامات التي يتطهّر فيها الناس الطهارة الكبرى ويقام فيها جانب من احتفالات
الأعراس والختان والولادة وتبنى فيها العلاقات الانسانية.
تشكل الحمّامات جزءا أساسيا في البنية الثقافية للمدينة العتيقة ولمختلف
المدن التونسية ليس فقط في جانبها الروحي وإنما أيضا في بعدها السوسيولوجي
فالقيروان كما يذكر الباحثان فاروق العسلي وراضي الجازي كانت تعدّ خلال الحقبة
الأغلبية حماما لكل 80 ساكنا والحاضرة كان بها خلال الفترة الحفصية 15 حماما الا
أن وجود الحمام في التراث الاسلامي يعود الى أبعد من ذلك بكثير فقد بدأ مع
الأمويين منذ القرن الثاني للهجرة وكان بدمشق 57 حماما ثم تطور انشاء الحمامات
فوصل
ملوك السلالات الحاكمة في تونس كانوا يعتبرون بدورهم بناء الحمامات من الأعمال الجليلة وكان حكام
الدولتين الحفصية والمراديّة على وجه الخصوص يقيمون أحياء متكاملة يكون من ضمنها
حمام فيوسف داي هو من بنى حمام الدولاتلي
في نهج العبري القريب من بطحاء الجنرال في باب منارة وبنى يوسف داي كذلك كامل الحي
الذي فيه جامعه مع سوق البركة وسوق السكّاجين وسوق الترك وبنى مقهى المرابط و
مدرسة وحماما وقع هدمه أوائل الستينات من القرن الماضي وحمام القشّاشين بناه علي
باشا سنة 1752 مع المدرسة الباشية وحمام الذهب بناه في نهج الذهب المتفرع عن سوق
سيدي محرز محمد باي المرادي وأما يوسف صاحب الطابع وزير حمودة باشا الحسيني فقد
بنى سنة 1808 حيّا متكاملا في الحلفاوين منه جامعه المعروف وسوق الجديد ومدرسة
وميضاة والحمام الموجود الان".
كانت مدينة تونس الى حدود القرن التاسع عشر تضم 50 حماما تاريخيا وقد بقي
أكثر من عشرين منها في حالة استغلال الى حد الآن فيما أغلق أغلب الباقي أوهدّم
واستغلت العقارات لأغراض أخرى لتضيع بذلك والى الأبد صفحات من الذاكرة الجماعية
.
يقول الباحث في التراث عادل التواتي عن الوضع الحالي لحمامات المدينة
العتيقة ومحيطها القريب " وقع هدم حمام دور الحارة المتفرع عن نهج باب بو
سعدون فيما حمام سيدي الرصاص القريب منه مغلق منذ مدة بعيدة وهو تقريبا في حالة
خراب وحمام نهج النساء المتفرع عن شارع باب الجديد بابه مسدود منذ أكثر من ثلاثين
سنة وسقفه منهار وحمام التمّارين في سوق السلاح خارج باب الجديد مغلق منذ ما يزيد
عن العشرين سنة مع العلم بأنه في الأصل من أوقاف المرحومة عزيزة عثمانة وحمام
الزيتوني في نهج الحكام مغلق منذ مدة وحمام الصباغين أيضا مغلق مند سنوات وحمام
المطيهرة في سوق البلاط مغلق وهو في حالة شبه خراب ويعدّ من أقدم الحمامات اذ يرجع
بناؤه الى القرن الخامس عشر أما الحمامات التي لا تزال مفتوحة فنذكر منها حمام
القشاشين وحمام سيدي بلغيث في الحجامين وكان هذا الحمام في ما مضى من أوقاف سيدي
بلغيث القشاش وحمام الدولاتلي وحمام بنهج ترنجة وحمام المر بنهج المر وحمام الرميمي في نهج الرميمي
الذي بني في القرن الرابع عشر من طرف احد اثرياء الاندلسيين (محمد الرميمي) وحمام
سيدي عبد السلام في زنقه سيدي بوراس وحمام زنقه الكبدة وحمام الصيودة في باب
الخضراء".
في غابة من المحلات التجارية وفي الزحمة الكثيفة للمارة يختبئ حمام القرانة
حتى أنه يصعب العثور عليه لمن لا يعرف المدينة العتيقة .الحمام المطلّ على السوق
والقريب من نهج بورتو فارينا وسوق النحاس وسوق الوزر تعلو بابه لافتة تشير إليه
وهو يتميز بقوسه الذي يتخذ شكل حدوة حصان والملوّن بالأبيض والأسود لكن ما يلفت
الانتباه أكثر هو تثبيت الرخامة التي تشير الى تاريخ بنائه أعلى الباب.
في الواقع ليست هذه الرخامة مهمة مطلقا بل النقيشة النادرة المثبتة في صحن
الحمام والمكتوبة بالخط الكوفي ما يؤكد بالفعل أننا ازاء معلم يعود الى الدولة
الفاطمية خلال توليتها للصنهاجيين. لم نتمكن من قراءة النقيشة التي لطخت جوانبها
بالطلاء لكن ما هو واضح أن الحمام حافظ على هيكلته القديمة التي تطبعها تلك القبة
المضاءة طبيعيا وبطريقة هندسية مدروسة فيما الاضافات الحديثة شملت الجزء المخصص
لاستراحة الحرفاء.
الحمام حافظ أيضا على الفضاء المخصص للحلاق ومكانه في السقيفة أسوة ببعض الحمامات الأخرى كحمام القشاشين الواقع في سوق الكتبية والذي يبقى بدوره من المعالم التاريخية الجميلة في المدينة العتيقة بقي أننا لا ندري فعلا لماذا تغرق هذه المعالم الحضارية البديعة والمشكّلة لجانب من الهوية العربية الاسلامية في مأساة التهميش وتختفي تدريجيا من الخارطة الأثرية .
