دار ابن خلدون العلاّمة شرقا وغربا

 

 في البيت عدد 33 بنهج تربة الباي كانت نشأة ابن خلدون وفي مسجد القبة القريب والذي يعود تاريخ بنائه الى العهد الخراساني (القرن 11) تلقى طفلا الدروس الدينية الأولى وقد أشار الى ذلك في كتابه (التعريف بابن خلدون ورحلته شرقا وغربا) حيث كتب "أما نشأتي فانني ولدت بتونس في غرة رمضان سنة اثنتين وثلاثين وسبعمائة (27 ماي 1332م) وربيت في حجر والدي رحمه الله الى أن يفعت وقرأت القرآن العظيم على الاستاذ المكتّب أبي عبد الله محمد بن سعد بن برال".

لم تكن ولادة بن خلدون في هذا الفضاء الحضاري منفصلة عن تاريخ الهجرات الأندلسية الأولى أو التالية الموريسكية والثابت أن هذا الحضور الاندلسي إنما أصبح أكثر قوة مع ولادة الدولة الحفصية على يد السلطان أبي زكرياء والذي كان واليا على غربي الأندلس وفي ذلك يقول الباجي بن مامي في دراسته (أوجه من الحضور الأندلسي بمدينة تونس) " ونتيجة لهذه العلاقة الوطيدة أتى الأندلسيون في كرّات متتالية إلى مدينة تونس بداية من النصف الأول للقرن السابع الهجري / الثالث عشر الميلادي ويبدو أن الدفعات الأولى لهؤلاء المهاجرين قدمت ابتداء من سقوط بلنسية في أيدي الإسبان سنة 636 هـ / 1238 م أو ربما قبل ذلك ببضع سنوات. ومن بين من استوطن مدينة تونس آنذاك نذكر على سبيل المثال أبا عبد الله ابن الابار ثم قدم عدد هام آخر عند سقوط إشبيلية أيضا في أيدي المسيحيين سنة 649 هـ / 1248 م وقد شجعهم ما وجدوه من الترحاب والمراعاة على الاتجاه إلى مدينة تونس إذ بقي أبو زكرياء ثم خلفاؤه في الحكم مرتبطين بالتقاليد الأندلسية. إلا أن عددهم تضاءل في القرن الثامن للهجرة / الرابع عشر الميلادي، لكن الأمور لم تبق على هذا النسق إذ تجدد قدومهم في القرن التاسع الهجري / الخامس عشر الميلادي وازداد خاصة بعد سقوط غرناطة".

في سياق التغريبة الأندلسية إذن استقرت عائلة بن خلدون في المدينة العتيقة بتونس بعد أن تقلّبت الأحوال في الاندلس وبدأ تضعضع الحكم الاسلامي فيها لكن جذور بن خلدون ليست أندلسية كما يخبرنا هو شخصيا وكما تشير الي ذلك الموسوعة التونسية فهو قد ولد " في أسرة عربيّة نسبُها من عرب اليمن إلى وائل بن حجر استقرّت منذ بداية الفتح الاسلامي بإشبيلية ونهضت بأدوار سيّاسية مهمّة ثمّ غادرت هذه المدينة إلى سبتة قبل دخول الاسبان إلى الأندلس ومن سبتة انتقلت إلى تونس في عهد السّلطان أبي زكرياء الحفصي ".

لم يستقر بن خلدون طويلا في تونس خاصة وانه فقد والديه في الطاعون الذي ضرب البلاد (1348 م) فقد حملته رحلات متتابعة منذ شبابه المبكر الى البلاط المريني بفاس ثم الى بلاط أبو عبد الله محمد الأول بغرناطة ومنها الى بجاية بالجزائر لكن المحطة الرئيسية في حياة العلامة التونسي ستكون بلا شك في قلعة تاوغازوت بولاية تيارت بالجزائر أو قلعة بني سلامة حيث سيكتب "المقدمة" وعن ذلك يقول بن خلدون

"ولحقت بأحياء أولاد عريف قبلة جبل كوزول (يقع في تيارت) فتلقوني بالتحفّي والكرامة وأقمت بينهم أياما حتى بعثوا عن أهلي وولدي من تلمسان وأحسنوا العذر الى السلطان عنّي في العجز عن قضاء خدمته وأنزلوني بأهلي في قلعة ابن سلامة من بلاد بني توجين التي صارت لهم باقطاع السلطان فأقمت بها أربعة أعوام متخليا عن الشواغل كلها وشرعت في تأليف هذا الكتاب وأنا مقيم بها وأكملت المقدمة منه على ذلك النحو الغريب الذي اهتديت اليه في تلك الخلوة

فسالت فيها شآبيب الكلام والمعاني على الفكر حتى امتخضت زبدتها وتألفت نتائجها وكانت من بعد ذلك الفيئة الى تونس كما نذكره ".

عاد بن خلدون الى تونس في ديسمبر 1378 حيث أتم كتاب العبر وباشر التدريس ثم انه لم يمكث سوى 4 سنوات غادر بعدها في سفينة الى الاسكندرية لأداء فريضة الحج لكنه ذهب عوضا عن ذلك الى القاهرة (8 ديسمبر 1382) التي سحرته فقال عنها " فرأيت حضرة الدنيا، وبستان العالم، ومحشر الأمم، وكرسي الملك، تلوح القصور والأواوين في جوه، وتزهر الخوانك والمدارس بآفاقه، وتضيء البدور والكواكب من علمائه، وقد مثل بشاطئ بحر النيل نهر الجنة، ومدفع مياه السماء، يسقيهم النهل والعلل سيحه، ويحيي إليهم الثمرات والخيرات ثجة، ومررت في سكك المدينة تغص بزحام المارة، وأسواقها تزجر بالنعم".

استقر بن خلدون في القاهرة مدرسا ومتقلدا منصب القضاء بين فترة وأخرى الى أن توفي بها يوم 17 مارس (26 رمضان) سنة 1406.

قضى بن خلدون القسم الاكبر من حياته متنقلا من بلد الى بلد ومن بلاط لآخر حتى أنه يصعب القول أن له موطنا محددا لكن الثابت انه تونسي المولد وفي مدينتها العتيقة نشأ وترعرع حتى الفترة الأولى من شبابه. وعلى الرغم من ان البيت الذي ولد فيه ليس من فئة القصور الفخمة التي امتلكها الأغنياء والوجهاء والحكام الا أن قيمته التاريخية لا تقدر بثمن .

تصميم دار بن خلدون كلاسيكي على الأغلب فالمدخل الرئيسي يفضي الى فضاءات مغلقة (الدريبة والسقيفة) مؤدية بدورها الى فناء تحيط به مجموعة من الغرف المخصصة لاقامة أصحاب البيت فيما الطابق العلوي الذي يرتكز على أعمدة رخامية تعلوها أقواس من دون زخرف فمن الواضح انه قد خضع لبعض التغييرات وهو في العادة مخصص للضيوف.

في هذا البيت الذي يعود الى القرن 14 يمكن أيضا ملاحظة التأثيرات العثمانية والأندلسية والايطالية سواء من خلال المواد المستعملة والتي تحلي جدران الفناء والغرف والارضيات والاسقف من خزف ورخام وغيرها .

كل المهتمين بالمعالم الحضارية ينتظرون أن يتم تثمين هذا المعلم وتحويله إلى فضاء للذاكرة والتاريخ.


أحدث أقدم

نموذج الاتصال