قليلة هي الكتب التي اهتمت بتاريخ مدينة باجة رغم الدور الهام الذي لعبته في مختلف المراحل من تاريخ تونس وربما كان أكثر ما وصلنا متعلقا بالفترة العثمانية وما حف بها من أحداث وشخصيات فيما قلّ وندر الانتاج الفكري التونسي المتعلق بالفترة القديمة والعصر الوسيط وها هو الدكتور الأمجد الدريدي يهتم بهذا الجانب في كتابه "مدينة باجة خلال العصرين الوسيط والحديث : دراسة تاريخية وأثرية".
قسّم الكاتب بحثه التاريخي إلى ثلاثة فصول، فتعرّض في الفصل الأوّل إلى تاريخ المدينة السياسي والعسكري طيلة العصرين الوسيط والحديث، وخصّص الفصل الثّاني لدراسة أهميّة باجة وناحيتها الاقتصادية والاجتماعيّة والثّقافية أمّا الفصل الثالث، فقد تتبّع فيه تطوّر المجال الحضري والعوامل المؤثّرة فيه، مبرزا خصائص المعالم الهندسية والزّخرفية.
في الفصل الأول تعرض الكتاب إلى مدينة باجة وأهمية موقعها على شبكة الطرقات القديمة والوسيطة وتطوراتها ، الطرقات الداخلية منها أو الساحلية إلى حدود طبرقة ، إضافة إلى طريق الجبال والقلاع الرابطة بين القيروان والمغرب الأوسط مرورا بباجة.
ثم تخلص للحديث عن مكانة مدينة باجة مركزا على عناصر محددة هي الفاعلية السياسية لمدينة باجة خلال العصر الأغلبي والعصرين الفاطمي والزيري والعصرين الموحدي والحفصي مع إبراز وضعية مدينة باجة وناحيتها خلال العصر الموحدي وخلال العصر الحفصي ، وتطورات الوضعية القانونية والادارية لمدينة باجة خلال العصر العثماني وانعكاسات ذلك على أدوارها السياسية والعسكرية.
في الفصل الثاني يقدم الكتاب الأهمية الاقتصادية لمدينة باجة وناحيتها والسياسة الجبائية المطبقة بافريقية وانعكاساتها على باجة وناحيتها خلال العصر الوسيط المبكر - المكانة الإقتصادية والجبائية لباجة وناحيتها خلال الفترتين الموحدية والحفصية - المكانة الإقتصادية والجبائية لباجة وناحيتها خلال العهد العثماني ويستكمل هذا الفصل بالإضاءة على المكانة العلمية لباجة خلال العصر الوسيط وخلال العصر الحديث.
في الفصل الثالث يتخلص المؤلف إلى الحديث عن ملامح النسيج الحضري لمدينة باجة خلال العصور القديمة الرومانية والبيزنطية - تطورات المجال الحضري لمدينة باجة خلال العصر الوسيط - تطورات المجال الحضري لمدينة باجة خلال العصرالحديث ويفصّل في معالم مدينة باجة بين الاندثار والصمود ويخص بالذكر أبواب المدينة الرئيسية وهي باب العين - باب السوق أو الباب الجديد - باب أبي طاعة - باب السبعة - باب الجديد الثاني أو الفوقاني - باب باجة المسمى أيضا باب الجنائز - باب سوق النحاس ثم الأبواب الفرعية وهي : باب الرحبة - باب خننوّ - باب حومة القصبة - باب حومة الجرابة وأقواس باب المكمدة وفي هذا الجزء إشارة أيضا إلى الأسبلة الحمامات وهي : سبيل عين بوزيط - سبيل باب العين - حمام المدينة بباب العين - حمام بوصندل ويختم بالاشارة إلى الرحاب المفتوحة والفنادق والمقاهي والمواد والتقنيات المستعملة في بناء هذه الفضاءات.
في الكتاب كذلك قسم شديد الأهمية حيث يهتم بالمنشآت الدفاعية الموروثة عن الفترة القديمة وهي السور وعملية بنائه وخصائصه الهندسية وما شهده من ترميم ، والقصبة وما يميزها تاريخيا وهندسيا وفي هذا الحيز أيضا اهتمام بالمنشآت الدينية وخصائصها وهي الجامع الكبير وجامع أحمد الجزار وجامع الباي ومدرسته فضلا عن الزوايا والأضرحة.
في تقديمه لهذه الكتاب يقول الدكتور الأمجد الدريدي أن لباجة مكانة "إستراتيجية هامّة بفضل موقعها المتميّز على شبكة الطّرقات، وبفضل أهميّة المجال الزّراعي المحيط بها، فكانت من المدن التي لها مشاركة فاعلة في مختلف الأحداث السياسية والعسكريّة التي عاشتها إفريقيّة خلال العصرين الوسيط والحديث. وتزداد أهميّة هذا العمل خاصّة في ظلّ المخاطر الكبيرة التي أصبحت تهدّد عديد المعالم التّاريخية والأثرية نظرا لمحدودية أعمال الصّيانة وكذلك بسبب الزّحف المعماري الجديد الذي دأب أصحابه على هدم البناءات التّاريخية والاستيلاء عليها وتحويلها إلى فضاءات تجارية وسكنيّة.
وما شجّعنا على خوض هذه المغامرة العلمية الأكاديميّة حول مدينة باجة خلال العصرين الوسيط والحديث أنّ الدراسات حولها ظلّت محدودة، ولم نجد حولها عملا تأليفيا جامعا يتناول مختلف الجوانب المرتبطة بتاريخ المدينة، بمجالها الحضري، بمكوّناته المعماريّة وبمدى ارتباطه بمختلف التحوّلات السياسية وما رافقها من أحداث عسكرية كان لها تأثير مباشر على مجالها الحضري والمعماري الذي شهد مراحل متعاقبة من البناء والتّشييد أو التّخريب والهدم أو إعادة البناء والتّشييد. وفي الوقت نفسه فقد ظلّت أغلب الأعمال المنجزة نادرة ومقتصرة على بعض المعالم فقط، ومن ثمّة لم نتحصّل على رؤية شاملة وتأليفية حول تاريخ وتراث هذه المدينة التي تظلّ التّساؤلات حولها عديدة".
والأستاذ الأمجد الدريدي هو أستاذ باحث بالمعهد العالي للعلوم الإنسانية بجندوبة ومتحصل على شهادة الدكتوراه في الآثار الإسلامية من جامعة السوربون بباريس وله العديد من المنشورات العلمية الأكاديمية في التاريخ والآثار الوسيطة ومن أهمها كتاب حول القرى والمجتمعات القروية بافريقية صدر باللغة الفرنسية سنة 2015 .